بسم الله الرحمن الرحيم
حاول اليهود عبر التاريخ ثلاث مرّات التملّص من دفع الجزية عبر تزوير كتاب يدّعون فيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم أسقط عنهم هذا، لكن اعتناء المؤرّخين المسلمين، وأهل السير والحديث حال دون ذلك ، وجعل محاولاتهم تبوء بالفشل.
المحاولة الأولى مطلع القرن الرابع الهجري ذكرها ابن كثير في البداية والنهاية - (12 / 102) وتصدّى لها الإمام المفسّر محمد بن جرير الطبري المتوفّى سنة "310"هـ وقال ابن كثير (كما ذكرت ذلك في مصنف مفرد)).
المحاولة الثانية وقعت سنة سبع وأربعين وأربعمائة وكان لها أكبر الأثر في رفع مقام الخطيب البعدادي وانتشار سمعته ورفعة منزلته . وهي تدل على سعة علمه واطلاعه ونباهته واستحضاره للوقائع والتاريخ ،رواها ابن الجوزي في المنتظم - (8 / 265) فقال:
"وكان قد أظهر بعض اليهود كتابا وادعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم بإسقاط الجزية عن أهل خيبر وفيه شهادات الصحابة وأن خط علي بن أبي طالب فيه، فعرضه رئيس الرؤساء ابن مسلمة على أبي بكر الخطيب، فقال: هذا مزوّر! قيل: من أين لك ؟!قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان ،ومعاوية أسلم يوم الفتح وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق فاستحسن ذلك منه.
ورواها ياقوت الحموي في معجم الأدباء - (1 / 144)، وزاد عليها:
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني: أن رئيس الرؤساء تقدم إلى القصاص والوعاظ، ألا يورد أحد حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يعرضه على أبي بكر الخطيب، فما أمرهم بإيراده أوردوه، وما منعهم منه ألغوه.
والمرّة الثالثة أرّخها ابن كثير في البداية والنهاية - (14 / 19)،أحداث شهر شوّال، سنة إحدى وسبعمائة،وفيه:" عقد مجلس لليهود الخيابرة، وألزموا بأداء الجزية أسوة أمثالهم من اليهود، فأحضروا كتاباً معهم يزعمون أنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وضع الجزية عنهم، فلما وقف فيه الفقهاء تبينوا أنه كذب مفتعل لما فيه من الألفاظ الركيكة والتواريخ المخبّطة واللحن، وحاققهم عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وبيّنلهم كذبهم، وخطأهم وأنه مزور مكذوب، فأنابوا إلى أداء الجزية،وخافوا من أن يستعاد عليهم بالسنين الماضية.
وقال ابن كثير: وقد وقفت أنا على هذا الكتاب، فرأيت فيه شهادة سعد بن معاذ عام خيبر، وقد توفي قبل ذلك بنحو من ثلاث سنين، وشهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم إذ ذاك وإنما أسلم بعد ذلك بنحو من سنتين، وفيه: كتب علي بن أبي طالب، وهذا لحن لا يصدر عن أمير المؤمنين على أنه يسند إليه علم النحو من طريق أبي الأسود الدؤلي عنه، وقد جمعت فيه جزءا مفردا وذكرت ما جرى فيه أيام القاضي الماوردي وكتاب أصحابنا في ذلك العصر وقد ذكره في الحاوي وصاحب الشامل في كتابه وغير واحد وبينوا خطأه ولله الحمد والمنة".اهـ
وقد استوعب ابن القيم في كتابه أحكام أهل الذمة - (1 / 91) أغلاط هذه الوثيقة التي ظنّ اليهود إمكانية تلفيقها وتمريرها على المسلمين، كما يفعلون في كتابهم المقدّس ويروج باطلهم على أتباعهم ومن هو على شاكلتهم لعدم وجود منهجية أصيلة في قبول الروايات وردّها كما هوالشأن عند محدّثي المسلمين ومؤرّخيهم الذين اعتنوا بذلك عناية عظيمة ووضعوا ضوابط دقيقة من خلال علوم متنوّعة.
قال ابن القيّم:"ادعاء يهود خيبر إسقاط الجزية عنهم وردّ ذلك:
وهذه الشبهة هي التي أوقعت عند اليهود أن أهل خيبر لا جزية عليهم وأنهم مخصوصون بذلك من جملة اليهود ثم أكدوا أمرها بأن زوّروا كتابا فيه أن رسول الله أسقط عنهم الكلف والسخر والجزية ووضعوا فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وغيرهما وهذا الكتاب كذب مختلق بإجماع أهل العلم من عشرة أوجه:
منها:أن أحدا من علماء النقل والسير والمغازي لم يذكر أن ذلك وقع البتة مع عنايتهم بضبط ماهو دون ذلك بكثير.
الثاني: أن الجزية إنمانزلت بعد فتح خيبر فحين صالح أهل خيبر لم تكن الجزية نزلت حتى يضعها عنهم .
الثالث: أن معاوية بن أبي سفيان لم يكن أسلم بعد فإنه إنما أسلم عام الفتح بعد خيبر .
الرابع: أن سعد بن معاذ توفي عام الخندق قبل فتح خيبر .
الخامس: أنه لم يكن في زمن رسول الله على أهل خيبر كلف ولا سخر حتى توضع عنهم.
السادس: أنه لم يكن لأهل خيبر من الحرمة ورعاية حقوق المسلمين ما يقتضي وضع الجزية عنهم وقد كانوا من أشد الكفار عداوة لرسول الله وأصحابه فأي خير حصل بهم للمسلمين حتى توضع عنهم الجزية دون سائر الكفار ؟
السابع: أن الكتاب الذي أظهروه ادعوا أنه بخط علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا كذب قطعا وعداوة علي رضي الله عنه لليهود معروفة وهو الذي قتل مرحبا اليهودي وأثخن في اليهود يوم خيبر حتى كان الفتح على يديه.
الثامن: أن هذا لا يعرف إلاّ من رواية اليهود وهم القوم البهت أكذب الخلق على الله وأنبيائه ورسله فكيف يصدقون على رسول الله فيما يخالف كتاب الله تعالى ؟
التاسع: أن هذا الكتاب لوكان صحيحا لأظهروه في أيام الخلفاء الراشدين وفي أيام عمر بن عبدالعزيز وفي أيام المنصور والرشيد وكان أئمة الإسلام يستثنونهم ممن توضع عنهم الجزية أو لذكر ذلك فقيه واحد من فقهاء المسلمين ولا يجوز على الأمة أن تجمع على مخالفة سنة نبيها وكيف يكون بأيدي أعداء الله كتاب من رسول الله ولا يحتجّون به كل وقت على من يأخذ الجزيةمنهم ولا يذكره عالم واحد من علماء السلف ؟ وإن اغترّ به بعض من لا علم له بالسيرة والمنقول من المتأخرين شنّع عليه أصحابه وبينوا خطأه وحذروا من سقطته.
العاشر: أن أئمة الحديث والنقل يشهدون ببطلان هذا الكتاب، وأنه زور مفتعل وكذب مختلق ولما أظهره اليهود بعد الأربع مئة على عهد الحافظ أبي بكر الخطيب البغدادي أرسل إليه الوزير ابن المسلمة فأوقفه عليه فقال الحافظ هذا الكتاب زور فقال له الوزير من أين هذا ؟ فقال فيه شهادة سعد بن معاذ ومعاوية بن أبي سفيان وسعد مات يوم الخندق قبل خيبر ومعاوية أسلميوم الفتح سنة ثمان وخيبر كانت سنة سبع فأعجب ذلك الوزير.
وللامانة العلمية منقول )