تطهير العصاة
سمعت بأنه سيتم يوم القيامة تطهير جميع من سيدخل الجنة بأن يذهبوا للنار أولاً حتى يطهروا من سيئاتهم ثم يدخلون الجنة وسيُستثنى المسلم الذي ضمن الله له الجنة والشهيد، فهل هذا صحيح ؟.
الحمد لله
أولاً :
لعل السائل يشير إلى قول الله تعالى : { وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا . ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا } وهذا الخطاب لسائر الخلق ، برهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم ، أنه ما منهم من أحد إلا سَيرِد النار ، حكماً حتمه الله على نفسه ، وأوعد به عباده ، فلا بد من نفوذه ، ولا محيد عن وقوعه .
واختُلِفَ في معنى الورود فقيل : ورودها ، حضورها للخلائق كلهم ، حتى يحصل الانزعاج من كل أحد ثم بعدُ ينجي الله المتقين .
وقيل : ورودها ، دخولها ، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً .
وقيل الورود هو المرور على الصراط الذي هو جسم على ظهر جهنم ، فيمر الناس على قدر أعمالهم فمنهم من يمر كلمح البصر ، وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، وكأجاويد الركاب .
ومنهم من يسعى ، ومنهم من يمشي مشياً ، ومنهم من يزحف زحفاً ، ومنهم من يُخطف فيُلقى في النار ، كلٌّ بحسب تقواه ، ولهذا قال : { ثم ننجي الذين اتقوا } الله تعالى بفعل المأمور ، واجتناب المحظور { ونذر الظالمين } أنفسهم بالكفر والمعاصي { فيها جثيا } وهذا بسبب ظلمهم وكفرهم ، وجب لهم الخلود وحقَّ عليهم العذاب ، وتقطعت بهم الأسباب . انتهى من تفسير ابن سعدي ص 811
ثانياً :
لابد لمن سيدخل الجنة أن يتطهر من جميع ذنوبه قبل دخولها ، وتطهير العصاة من ذنوبهم يحصل في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا جعل الله لعباده طرقاً يتخلصون بها من عقوبات معاصيهم وسيئاتهم بالاستغفار والتوبة النصوح والحسنات الماحية ..
وقد تقدم الكلام على ذلك في السؤال رقم ( 13693 ) .
وأما تطهير العصاة في الآخرة فإنه يحصل بأمور :
1- دعاء المؤمنين للمؤمن مثل صلاتهم على جنازته فعن عائشة وأنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من ميت يصلي عليه أُمةٌ من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون إلا شُفِّعوا فيه " رواه مسلم (947)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه " رواه مسلم (948)
... فعُلم أن هذا الدعاء من أسباب المغفرة للميت .
2- ما عمله الإنسان من الصدقات الجارية في حياته فإنه ينتفع بها بعد موته .
3- ما يُعمل للميت من أعمال البر كالصدقة والحج ونحو ذلك فإن هذا ينتفع به بنصوص السنة الصحيحة الصريحة فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه .
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثَةٍ إِلا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ " رواه مسلم 1638
4- ما يحصل في القبر من الفتنة والضغطة والروعة ، فإن هذا مما يُكفر به الخطايا .
5- شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وغيره في أهل الذنوب يوم القيامة كما قد تواترت عنه أحاديث الشفاعة مثل قوله في الحديث الصحيح شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي وقوله صلي الله عليه وسلم خيرت بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكثر أترونها للمتقين لا ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين . رواه ابن ماجه 4311 وصححه الألباني في صحيح ابن ماجة 3480
6- أهوال يوم القيامة وكربها وشدائدها .
7- رحمة الله وعفوه ومغفرته بلا سبب من العباد فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ " رواه البخاري 6469
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ ( أي ستره ) وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ " رواه البخاري 2441
8- ما ثبت في الصحيحين أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار فيقتص لبعضهم من بعض فإذا هذبوا ونقوا أُذِنَ لهم في دخول الجنة فعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْلُصُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّارِ فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيُقَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمُ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا أُذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ فِي الدُّنْيَا . رواه البخاري 6535
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
قَوْله ( إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ النَّار ) أَيْ نَجَوْا مِنْ السُّقُوطِ فِيهَا بَعْدَمَا جَازُوا عَلَى الصِّرَاط .
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : هَؤُلاءِ الْمُؤْمِنُونَ هُمْ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ الْقِصَاص لا يَسْتَنْفِدُ حَسَنَاتِهِمْ .
قُلْت ( الحافظ ) : وَلَعَلَّ أَصْحَاب الأَعْرَاف مِنْهُمْ عَلَى الْقَوْل الْمُرَجَّحِ آنِفًا , وَخَرَجَ مِنْ هَذَا صِنْفَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ : مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ; وَمَنْ أَوْبَقَهُ عَمَلُهُ .
أَوْبَقَهُ : أي أهلكه
قَوْله ( فَيُحْبَسُونَ عَلَى قَنْطَرَةِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ) ... الصِّرَاط جِسْرٌ مَوْضُوعٌ عَلَى مَتْنِ ( أي : ظهر ) جَهَنَّمَ والْجَنَّة وَرَاءَ ذَلِكَ فَيَمُرُّ عَلَيْهِ النَّاسُ بِحَسَبِ أَعْمَالهمْ , فَمِنْهُمْ النَّاجِي وَهُوَ مَنْ زَادَتْ حَسَنَاتُهُ عَلَى سَيِّئَاتِهِ أَوْ اِسْتَوَيَا أَوْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ , وَمِنْهُمْ السَّاقِطُ وَهُوَ مَنْ رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ إِلا مَنْ تَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ , فَالسَّاقِط مِنْ الْمُوَحِّدِينَ يُعَذَّبُ مَا شَاءَ اللَّه ثُمَّ يَخْرُجُ بِالشَّفَاعَةِ وَغَيْرِهَا , وَالنَّاجِي قَدْ يَكُون عَلَيْهِ تَبِعَاتٌ وَلَهُ حَسَنَات تُوَازِيهَا أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا فَيُؤْخَذُ مِنْ حَسَنَاتِهِ مَا يَعْدِلُ تَبِعَاتِهِ فَيَخْلُصُ مِنْهَا .
قَوْله ( حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَنُقُّوا ) َهُمَا بِمَعْنَى التَّمْيِيزِ وَالتَّخْلِيصِ مِنْ التَّبِعَاتِ . انتهى
فإن لم يتطهر المسلم الموحد العاصي من معاصيه بسبب من هذه الأسباب فإنه يدخل النار ليتم تطهيره فيها ولكنه لا يخلد في النار بل يخرج بشفاعة الشافعين ورحمة أرحم الراحمين .
قال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله :
" أما العصاة : كقاتل النفس بغير حق والزاني والعاق لوالديه وآكل الربا وشارب المسكر إذا ماتوا على هذه المعاصي وهم مسلمون ، وهكذا أشباههم هم تحت مشيئة الله كما قال سبحانه : ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ) فإن شاء جل وعلا عفا عنهم لأعمالهم الصالحة التي ماتوا عليها وهي توحيده وإخلاصهم لله وكونهم مسلمين أو بشفاعة الشفعاء فيهم مع توحيدهم وإخلاصهم .
وقد يعاقبهم سبحانه ولا يحصل لهم عفو فيعاقبون بإدخالهم النار وتعذيبهم فيها على قدر معاصيهم ثم يخرجون منها ، كما تواترت بذلك الأحاديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه يشفع للعصاة من أمته ، وأن الله يحد له حدا في ذلك عدة مرات ، يشفع ويخرج جماعة بإذن الله ثم يعود فيشفع ، ثم يعود فيشفع ، ثم يعود فيشفع عليه الصلاة والسلام ( أربع مرات ) ، وهكذا الملائكة وهكذا المؤمنون وهكذا الأفراط ( وهم الأولاد الذين ماتوا قبل البلوغ ) كلهم يشفعون ويخرج الله سبحانه من النار بشفاعتهم من شاء سبحانه وتعالى ويبقى في النار بقية من العصاة من أهل التوحيد والإسلام فيخرجهم الرب سبحانه بفضله ورحمته بدون شفاعة أحد ، ولا يبقى في النار إلا من حكم عليه القرآن بالخلود الأبدي وهم الكفار . انتهى مجموع فتاوى ومقالات ابن باز (9/380)
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ... حَتَّى إِذَا فَرَغَ اللَّهُ مِنْ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ النَّارِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّنْ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ أَمَرَ الْمَلائِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوهُمْ فَيَعْرِفُونَهُمْ بِعَلَامَةِ آثَارِ السُّجُودِ وَحَرَّمَ اللَّهُ عَلَى النَّارِ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ ابْنِ آدَمَ أَثَرَ السُّجُودِ فَيُخْرِجُونَهُمْ قَدْ امْتُحِشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ مَاءٌ يُقَالُ لَهُ مَاءُ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ... رواه البخاري 6574 ومسلم 172
امْتُحِشُوا : أي احترقوا
حَمِيلِ السَّيْلِ : أي ما يحمله السيل من طين ونحوها
وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " أَمَّا أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فِيهَا وَلا يَحْيَوْنَ وَلَكِنْ نَاسٌ أَصَابَتْهُمْ النَّارُ بِذُنُوبِهِمْ أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً حَتَّى إِذَا كَانُوا فَحْمًا أُذِنَ بِالشَّفَاعَةِ فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ فَبُثُّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنَّةِ ثُمَّ قِيلَ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبَّةِ تَكُونُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ... رواه مسلم 185
ومعنى ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ ( أي : جماعات متفرقة )
نسأل الله أن يرحمنا برحمته ... وأن يتجاوز عنا .. والحمد لله رب العالمين
والله أعلم
المراجع :
فتاوى ابن تيمية (7/498- 501) / منهاج السنة (6/238) / فتح الباري (11/406) البحار الزاخرة 242 .
الإسلام سؤال وجواب