المقام المحمود هو الشفاعة وليس إقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش
السؤال : ما صحة تفسير الإمام مجاهد في قوله تعالى : ( عسى أن يبعثَك ربك مقاما محمودا ) : هو أن يُجلس اللهُ تعالى محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم معه على كرسيه ، أو أن محمداً رسول الله يُجلسه ربُّه على العرش معه ؟
الجواب :
الحمد لله
مسألة إقعاد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش كانت وما زالت مثار جدال وحوار ، وينبغي التنبيه على عدة أمور قبل الكلام على صحة هذا الكلام أو عدم صحته :
أولاً :
ليس في إثبات قعود النبي صلى الله عليه وسلم على العرش حديث مقبول ثابت الإسناد عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والقاعدة التي تقوم عليها عقيدة أهل السنة والجماعة : أن ما سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب يبقى من الغيب الذي لا يجوز الخوض فيه على وجه الجزم والإيمان .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" حديث قعود الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش ، رواه بعض الناس من طرق كثيرة مرفوعة ، وهي كلها موضوعة ". انتهى من" درء تعارض العقل والنقل " (3/19) .
وقال الذهبي رحمه الله :
" قضية قعود نبينا على العرش فلم يثبت في ذلك نص ، بل في الباب حديث واه ". انتهى من
" العلو " (2/1081، رقم/422) .
ثانياً :
تفسير القرآن الكريم بما ورد في صحيح السنة أولى بالاتباع من الأخذ بتفسير أحد التابعين – ولو كان بعلم مجاهد رحمه الله -، خاصة إذا عرفنا أنه قد روي عن مجاهد نفسه أنه قد فسر الآية بما يوافق الأحاديث والآثار الصحيحة كما سيأتي نقله .
فعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي عَلَى تَلٍّ ، وَيَكْسُونِي رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى حُلَّةً خَضْرَاءَ ، ثُمَّ يُؤْذَنُ لِي ، فَأَقُولُ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ أَقُولَ ، فَذَاكَ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ ) رواه أحمد في " المسند " (25/60) طبعة مؤسسة الرسالة .
وقال المحققون لهذه الطبعة : " إسناده صحيح على شرط مسلم ، رجاله ثقات رجال الشيخين غير يزيد بن عبد ربه - وهو الزُّبيدي الحمصي- فمن رجال مسلم، وعبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، اختلف في سماعه من جده ، والصحيح سماعه منه " انتهى.
ومن الآثار الموقوفة الصحيحة قول ابن عمر رضي الله عنهما : (إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثًا ، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا ، يَقُولُونَ يَا فُلاَنُ اشْفَعْ ، حَتَّى تَنْتَهِي الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِي صلى الله عليه وسلم ، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ) رواه البخاري (4718) وبوب عليه بقوله: باب قَوْلِهِ ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ) اختياراً منه لهذا الوجه من التفسير .
وتفسير الآية بمقام الشفاعة العظمى هو الذي اقتصر عليه الحافظ ابن كثير في " تفسير القرآن العظيم " (5/103)، وأورده عن كثير من الصحابة والتابعين ، وقال فيه ابن جرير الطبري : إنه قول أكثر أهل التأويل .
وهذا القول أولى ما فسرت به الآية .
ثالثاً :
حكاية بعض العلماء لكلام مجاهد وعدم إنكارهم له ، لا يعني أنه يقولون بما فيه ، بل ذلك من باب التساهل في ذكر الفضائل .
حكى أبو محمد بن بشار ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه :
" أنه كان يعرض عليه الحديث ، فيقول فيه : هذا رواه كذا وكذا رجل يسميهم ، فإذا عرض عليه حديث ضعيف قال له : اضرب عليه . فعرض عليه حديث مجاهد فضعفه ، فقال : يا أبه ! أَضْرِبُ عليه ؟ فقال : لا ، هذا حديث فيه فضيلة ، فأجره على ما جرى ، ولا تضرب عليه " انتهى.
نقله في " إبطال التأويلات " (ص/489) .
وهذا النقل يدل على سبب اشتهار أثر مجاهد ، وهو سكوت بعض أئمة الحديث كالإمام أحمد عن هذا الأثر ، فظن بعض العلماء أن ذلك من باب التسليم بمضمونه ، والاعتقاد بمحتواه ، فقيل : إنه من الآثار المتلقاة بالقبول .
والواقع ليس كذلك ، فقد صرح كثير من العلماء بعدم صحة هذا الكلام الذي قاله مجاهد .
قال ابن عبد البر رحمه الله :
" على هذا أهل العلم في تأويل قول الله عز وجل : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) أنه الشفاعة .
وقد روي عن مجاهد أن المقام المحمود أن يقعده معه يوم القيامة على العرش ، وهذا عندهم منكر في تفسير هذه الآية .
والذي عليه جماعة العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين أن المقام المحمود هو المقام الذي يشفع فيه لأمته ، وقد روي عن مجاهد مثل ما عليه الجماعة من ذلك ، فصار إجماعا في تأويل الآية من أهل العلم بالكتاب والسنة .
ذكر ابن أبي شيبة عن شبابة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله تعالى : ( عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) قال : شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى من " التمهيد " (19/63-64) .
وقال الإمام الذهبي رحمه الله :
" ومِن أَنْكَرِ ما جاء عن مجاهد في التفسير في قوله : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال: يجلسه معه على العرش ". انتهى من" ميزان الاعتدال " (3/439) .
وقال أيضا رحمه الله :
" وما فسر به مجاهد الآية كما ذكرناه فقد أنكره بعض أهل الكلام ، فقام المروذي وقعد وبالغ في الانتصار لذلك ، وجمع فيه كتابا ، وطرَّق قول مجاهد من رواية ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد ... فأبصر - حفظك الله من الهوى - كيف آل الغلو بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر " انتهى من" العلو " (2/1081-1090، رقم/422-426) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
" ومما يدل على ذلك أنه ثبت في " الصحاح " أن المقام المحمود هو الشفاعة العامة الخاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم .
ومن العجائب التي يقف العقل تجاهها حائرا أن يفتي بعض العلماء من المتقدمين بأثر مجاهد هذا كما ذكره الذهبي عن غير واحد منهم ، بل غلا بعض المحدثين فقال : لو أن حالفا حلف بالطلاق ثلاثا أن الله يقعد محمدا صلى الله عليه وسلم على العرش واستفتاني ، لقلت له : صدقت وبررت !
وإن مثل هذا الغلو لمما يحمل نفاة الصفات على التشبث بالاستمرار في نفيها ، والطعن بأهل السنة المثبتين لها ، ورميهم بالتشبيه والتجسيم ، ودين الحق بين الغالي فيه والجافي عنه ، فرحم الله امرءا آمن بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصفات وغيرها على الحقيقة اللائقة بالله تعالى ، ولم يقبل في ذلك ما لم يصح عنه صلى الله عليه وسلم كهذا الحديث ، [يعني حديث : (ويقعدني على العرش)] ، فضلا عن مثل هذا الأثر ". انتهى من" السلسلة الضعيفة " (865) .
وقال الشيخ الألباني أيضا رحمه الله :
" رواية الأحاديث الضعيفة من بعض المحدثين هو مما يعاب عليهم من قبل المخالفين لهم ، وإن كان هؤلاء يفعلون ما هو أسوأ من ذلك كما أوضحه شيخ الإسلام .
ومن أشهر من أخذ ذلك عليهم في هذا العصر ، ويتخذه حجة في تسخيفهم وتضليلهم الشيخ الكوثري المعروف بعدائه الشديد لأهله السنة والحديث ، ونبزه إياهم بلقب الحشوية والمجسمة ، وهو في ذلك ظالم لهم مفتر .
ولكن - والحق يقال - قد يجد أحيانا في ما يرويه بعضهم من الأحاديث والآثار ما يدعم به فريته ، مثل الحديث المروي في تفسير قوله تعالى : ( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) قال : يجلسني على العرش .
والحق في تفسير المقام المحمود دون شك ولا ريب – الشفاعة - ؛ وهو الذي صححه الإمام ابن جرير في ( تفسيره )، ثم القرطبي ، وهو الذي لم يذكر الحافظ ابن كثير غيره وساق الأحاديث المشار إليها .
بل هو الثابت عن مجاهد نفسه من طريقين عنه عند ابن جرير .
وذاك الأثر عنه ليس له طريق معتبر ، فقد ذكر – الذهبي - أنه روي عن ليث بن أبي سليم وعطاء بن السائب وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد : والأولان مختلطان والآخران ضعيفان بل الأخير متروك متهم .... وخلاصة القول : إن قول مجاهد هذا - وإن صح عنه - لا يجوز أن يتخذ دينا وعقيدة ما دام أنه ليس له شاهد من الكتاب والسنة ". انتهى باختصار من" مختصر العلو " (14-20) .
وبهذا يتبين أن الصحيح في تفسير المقام المحمود هو مقام الشفاعة ، وليس كما ورد في هذا الأثر عن مجاهد رحمه الله .
والله أعلم .
الإسلام سؤال وجواب