هل ثبت عن الإمام أحمد رحمه الله أن تأول صفة المجيء لله عز وجل ؟
في البداية والنهاية مجلد الخامس (10 /354) : في ترجمة الإمام أحمد إمام أهل السنة رحمه الله ما نصه : روى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السماك عن حنبل أن أحمد بن حنبل تأول قول الله تعالى : (وجاء ربك) الفجر : 22 ، أنه جاء ثوابه . ثم قال البيهقي : وهذا إسناد لا غبار عليه " .
الجواب :
الحمد لله
أولاً :
مذهب أهل السنة والجماعة : أنهم يثبتون لله عز وجل الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا تعطيل ولا تأويل ، ولا تكييف ولا تمثيل ، وهي عندهم على الحقيقة لا على المجاز .
قال ابن عبد البر رحمه الله : " أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة في الكتاب والسنة وحملها على الحقيقة لا على المجاز ، إلا أنهم لم يكيفوا شيئا من ذلك " انتهى من "التمهيد" (7/145) .
ثانياً :
المنقول عن الإمام أحمد رحمه الله من الروايات في صفات الله عز وجل تدل على موافقته رحمه الله لمذهب أهل السنة والجماعة في باب الأسماء والصفات ، بل هو رحمه الله إمام من أئمة السنة ، وله في التصدي لأهل البدع من الجهمية والمعتزلة في باب الأسماء والصفات مؤلفات وردود .
قال أبو بكر الخلال رحمه الله : " وقد حدثنا أبو بكر المروذي رحمه الله قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تردّها الجهمية في الصفات والرؤية والإسراء وقصة العرش ، فصححها أبو عبدالله ، وقال : قد تلقتها العلماء بالقبول ، نسلم الأخبار كما جاءت . قال : فقلت له إن رجلا اعترض في بعض هذه الأخبار كما جاءت ، فقال : يجفى . وقال ما اعتراضه في هذا الموضع ؟! يسلم الأخبار كما جاءت " انتهى .
"السنة للخلال" (1/ 247) .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (5/26) : " قال الإمام أحمد رضي الله عنه لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم لا يتجاوز القرآن والحديث " انتهى .
ثالثاً :
ما ذكره ابن كثير رحمه الله من رواية البيهقي من أن الإمام أحمد تأول المجيء في قوله تعالى (وَجَاءَ رَبُّكَ) بمجيء الثواب ، فهذه الرواية أجاب عنها أهل العلم بعدة أجوبة :
1. أنها من رواية حنبل ومفاريده ، وأهل العلم رحمهم الله اختلفوا في قبول ما انفرد به حنبل عن الإمام أحمد رحمه الله .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/75) : " وحنبل له مفاريد ينفرد بها من الروايات في الفقه والجماهير يرروون خلافه ، وقد اختلف الأصحاب في مفاريد حنبل التى خالفه فيها الجمهور هل تثبت روايته على طريقين ، فالخلال وصاحبه قد ينكرانها ويثبتها غيرهما كابن حامد " انتهى .
وقال ابن رجب رحمه الله – في كلامه عن حنبل - : " وهو ثقة إلا أنه يهم أحيانا ، وقد اختلف متقدمو الأصحاب فيما تفرد به حنبل عن أحمد : هل تثبت به رواية عنه أم لا ؟ " انتهى من "فتح البارى لابن رجب" (2/ 156) .
2. مخالفة بعض الحنابلة لحنبل رحمه الله في نقله لهذه الرواية وتخطئتهم له .
قال أبو يعلى رحمه الله في " إبطال التأويلات " (1/ 132) : " وقد قال أحمد في رواية حنبل في قوله ( وجاء ربك ) قال : قدرته " ، قال أبو إسحاق بن شاقلا : هذا غلط من حنبل لا شك فيه ، وأراد أبو إسحاق بذلك أن مذهبه حمل الآية على ظاهرها في مجيء الذات ، هذا ظاهر كلامه ، والله أعلم " انتهى .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/75) : " وقال قوم غلط حنبل في نقل هذه الرواية " انتهى .
3. هذه الرواية مخالفة للمتواتر والمشهور عن الإمام أحمد في المنع من التأويل في الصفات .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "مجموع الفتاوى" (5/ 401) : " ولا ريب أن المنقول المتواتر عن أحمد يناقض هذه الرواية ويبين أنه لا يقول : إن الرب يجيء ويأتي وينزل أمره بل هو ينكر على من يقول ذلك " انتهى .
4. أنّ حنبلاً نفسه قد نقل عن الإمام أحمد رحمه الله روايات في إثباته للصفات الفعلية الاختيارية ، كالمجيء والنـزول .
جاء في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة لللالكائي" (3/453) : " قال حنبل رحمه الله : سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إن الله ينزل إلى السماء الدنيا ، فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا نرد شيئا منها إذا كانت أسانيد صحاح ، ولا نرد على رسول الله قوله ، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق ، حتى قلت لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا قال قلت نزوله بعلمه أم بماذا ؟ ، فقال لي : اسكت عن هذا ، مالك ولهذا امض الحديث على ما روي " انتهى .
5. وعلى فرض ثبوت هذه الرواية عن أحمد ، فإنه إنما قالها في معرض المناظرة مع خصومه ، وقد قال شيخ الإسلام على هذا الاحتمال : "وهذا قريب" .
قال شيخ الإسلام رحمه الله في "الاستقامة" (1/75) : " وقال قوم منهم إنما قال ذلك إلزاما للمنازعين له ، فإنهم يتأولون مجئ الرب بمجئ أمره قال فكذلك قولوا : يجئ كلامه مجئ ثوابه ، وهذا قريب " انتهى .
وقال رحمه الله شارحاً وجه إلزام أحمد لخصومه في هذه المسألة ، فقال : " ومنهم من قال : بل أحمد قال ذلك على سبيل الإلزام لهم ، يقول : إذا كان أخبر عن نفسه بالمجيء والإتيان ، ولم يكن ذلك دليلا على أنه مخلوق ، بل تأولتم ذلك على أنه جاء أمره ، فكذلك قولوا : جاء ثواب القرآن ، لا أنه نفسه هو الجائي ، فإن التأويل هنا ألزم ، فإن المراد هنا الإخبار بثواب قارئ القرآن ، وثوابه عمل له ، لم يقصد به الإخبار عن نفس القرآن .
فإذا كان الرب قد أخبر بمجيء نفسه ، ثم تأولتم ذلك بأمره ، فإذا أخبر بمجيء قراءة القرآن فلأن تتأولوا ذلك بمجيء ثوابه بطريق الأولى والأحرى ، وإذا قاله على سبيل الإلزام لم يلزم أن يكون موافقا لهم عليه " انتهى من "مجموع الفتاوى" (5/ 400) .
والحاصل :
أن رواية حنبل لا تصح نسبتها إلى الإمام أحمد ، وعلى فرض صحتها ، فيقال إنما قال الإمام أحمد ذلك على وجه الإلزام لخصومه .
وينظر للاستزادة : موقف ابن تيمية من الأشاعرة ، للدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود (3/1163) ، وإتحاف أهل الفضل والإنصاف للشيخ سليمان بن ناصر العلوان .
والله أعلم
الإسلام سؤال وجواب