ترجمة ابن القيم وابن الجوزي ، ومعنى " نفعنا الله ببركتهم " في كلام العلماء
سؤالي هو أني وجدتُ في كتاب ابن القيم عندما يحكي عن الصالحين والذين حسنت خاتمتهم أنه يقول " نفعنا الله ببركاتهم " ، وفيما معناه أنه كان يقول : أن نتبرك بقبورهم ! فما الذي تحذرونا منه عن كتب ابن القيم رحمه الله ، واقصد صاحب كتاب " بحر الدموع " .
الجواب:
الحمد لله
أولاً:
خلط الأخ السائل بين شخصيتين ، الأولى : ابن قيم الجوزية ، والثاني : ابن الجوزي ، وبينهما فرق في الاسم ، والكنية ، والميلاد ، والاعتقاد .
1. فابن الجوزي : هو جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله الجوزي .
وهو منسوب إلى " فرضة الجوز " وهو مرفأ نهر البصرة ، وقيل بل كانت في داره بواسط جوزة ، لم يكن بواسط جوزة سواها .
قال عنه ابن كثير : أحد أفراد العلماء، برَّز في علوم كثيرة، وانفرد بها عن غيره، وجمع المصنفات الكبار والصغار نحوًا من ثلاثمائة مصنف .
وقال عنه الذهبي : ما علمتُ أحداً صنَّف ما صنَّف هذا الرجل .
وكان مشهوراً بالوعظ البليغ المؤثر .
من أبرز شيوخه : القاضي أبو بكر الأنصاري ، وأبو بكر المَزْرَفي .
ومن أبرز تلامذته : عبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي المقدسي ، عبد الحليم بن محمد بن أبي القاسم .
من أبرز كتبه : " زاد المسير في علم التفسير " ، " صيد الخاطر " ، " المنتظم في تواريخ الأمم من العرب والعجم " ، " تلبيس إبليس " ، " أخبار الحمقى والمغفلين " .
وكانت عقيدة ابن ابن الجوزي مضطربة ، يميل إلى الأشعرية أحياناً كثيرة ، وإلى السلف تارة أخرى .
قال ابن رجب الحنبلي – رحمه الله – في ذكر ما انتُقد على ابن الجوزي - :
ومنها - وهو الذي من أجله نقم جماعة من مشايخ أصحابنا ، وأئمتهم من المقادسة ، والعلثيين - : مِن ميله إلى التأويل في بعض كلامه ، واشتد نكيرهم عليه في ذلك ، ولا ريب أن كلامه في ذلك مضطرب ، مختلف ، وهو وإن كان مطلعاً على الأحاديث ، والآثار في هذا الباب : فلم يكن خبيراً بحل شبهة المتكلمين ، وبيان فِسادها ، وكان معظِّماً لأبي الوفاء بن عقيل ، يتابعه في أكثر ما يجد في كلامه ، وإن كان قد ردَّ عليه في بعض المسائل ، وكان ابن عقيل بارعاً في الكلام ، ولم يكن تام الخبرة بالحديث ، والآثار ، فلهذا يضطرب في هذا الباب ، وتتلون فيه آراؤه ، وأبو الفرج تابع له في هذا التلون .
قال الشيخ موفق الدين المقدسي : كان ابن الجوزي إمام أهل عصره في الوعظ ، وصنف في فنون العلم تصانيف حسنة ، وكان صاحب قبول ، وكان يدرِّس الفقه ، ويصنِّف فيه ، وكان حافظاً للحديث ، وصنَّف فيه ، إلا أننا لم نرض تصانيفه في السنَّة ، ولا طريقته فيها . انتهى
" ذيل طبقات الحنابلة " ( 1 / 414 ) .
فالحذر من قراءة كتبه التي ألفها في باب الصفات ككتاب " دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه " .
وكانت وفاته رحمه الله في سنة ( 597 ) هـ .
وأما كتاب " بحر الدموع " الوارد في السؤال ، فهو لهذا الأول ، ابن الجوزي ، وليس لابن القيم الآتي ترجمته فيما بعد .
2. ابن قيم الجوزية – ويُختصر اسمه إلى ابن القيِّم - : هو شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن أيوب الزُّرَعي .
وكان والده عالماً مشهوراً بعلم الفرائض ، كان قيِّماً – مسئولاً - للمدرسة الجوزية بدمشق , فعرف إمامنا بابن قيم الجوزية .
ومن أبرز شيوخه : شيخ الإسلام ابن تيمية ، وقد لازمه ملازمة تامة مدة طويلة ، ونهل من علمه .
ومن أبرز تلامذته : ابن رجب الحنبلي ، وابن عبد الهادي ، وابن كثير ، رحمهم الله جميعاً .
ومن أبرز كتبه : أعلام الموقعين عن رب العالمين ، أحكام أهل الذمة ، بدائع الفوائد ، زاد المعاد في هدى خير العباد ، هداية الحيارى من اليهود والنصارى .
وكان ابن القيم رحمه الله سلفيّاً على الجادة .
وكانت وفاته رحمه الله في سنة ( 751 ) هـ .
ثانياً:
وأما بخصوص مقولة ابن الجوزي رحمه الله : " نفعنا الله ببركاتهم " : ففيها تفصيل :
1. فالبركة لا تكون في ذات أحدٍ مجرداً إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد جعل الله تعالى ذات نبيه صلى الله عليه وسلم ، وآثاره الطاهرة كشعْره وعرقه وبصاقه : جعله بركة ، وليس هذا لأحدٍ غيره ، ولو كان لإمام الأولياء بعده أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه .
2. والبركة لا تكون في ميت ، ولا منه ، وليّاً كان أو دعيّاً .
3. والبركة في أهل العلم والفضل تكون فيما تركوه من العلم النافع ، والسنن الحسنة التي يقتدى بهم فيها ، وما نفعوا الناس به من الدعوة إلى الله ، والتربية على دينه ، لا في ذواتهم المجردة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَأَمَّا قَوْلُ الْقَائِلِ : نَحْنُ فِي بَرَكَةِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ وَقْتِ حُلُولِهِ عِنْدَنَا حَلَّتْ الْبَرَكَةُ : فَهَذَا الْكَلَامُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ ، بَاطِلٌ بِاعْتِبَارِ .
فَأَمَّا الصَّحِيحُ : فَأَنْ يُرَادَ بِهِ أَنَّهُ هَدَانَا وَعَلَّمَنَا ، وَأَمَرَنَا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَبِبَرَكَةِ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ حَصَلَ لَنَا مِنْ الْخَيْرِ مَا حَصَلَ ، فَهَذَا كَلَامٌ صَحِيحٌ . كَمَا كَانَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ لَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَرَكَتِهِ لَمَّا آمَنُوا بِهِ وَأَطَاعُوهُ فَبِبَرَكَةِ ذَلِكَ حَصَلَ لَهُمْ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، بَلْ كُلُّ مُؤْمِنٍ آمَنَ بِالرَّسُولِ وَأَطَاعَهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ بَرَكَةِ الرَّسُولِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ وَطَاعَتِهِ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ .
وأَيْضًا : إذَا أُرِيدَ بِذَلِكَ أَنَّهُ بِبَرَكَةِ دُعَائِهِ وَصَلَاحِهِ دَفَعَ اللَّهُ الشَّرَّ وَحَصَلَ لَنَا رِزْقٌ وَنَصْرٌ ، فَهَذَا حَقٌّ ... ، فَبَرَكَاتُ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ بِاعْتِبَارِ نَفْعِهِمْ لِلْخَلْقِ بِدُعَائِهِمْ إلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَبِدُعَائِهِمْ لِلْخَلْقِ وَبِمَا يُنْزِلُ اللَّهُ مِنْ الرَّحْمَةِ وَيَدْفَعُ مِنْ الْعَذَابِ بِسَبَبِهِمْ حَقٌّ مَوْجُودٌ ؛ فَمَنْ أَرَادَ بِالْبَرَكَةِ هَذَا وَكَانَ صَادِقًا فَقَوْلُهُ حَقٌّ .
وَأَمَّا " الْمَعْنَى الْبَاطِلُ " : فَمِثْلُ أَنْ يُرِيدَ الْإِشْرَاكَ بِالْخَلْقِ ؛ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ مَقْبُورٌ بِمَكَانِ فَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ يَتَوَلَّاهُمْ لِأَجْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَقُومُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهَذَا جَهْلٌ . فَقَدْ كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ مَدْفُونا بِالْمَدِينَةِ عَامَ الْحَرَّةِ ، وَقَدْ أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ الْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالْخَوْفِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ أَحْدَثُوا أَعْمَالًا أَوْجَبَتْ ذَلِكَ وَكَانَ عَلَى عَهْدِ الْخُلَفَاءِ يَدْفَعُ اللَّهُ عَنْهُمْ بِإِيمَانِهِمْ وَتَقْوَاهُمْ لِأَنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ كَانُوا يَدْعُونَهُمْ إلَى ذَلِكَ وَكَانَ بِبَرَكَةِ طَاعَتِهِمْ لِلْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ وَبَرَكَةِ عَمَلِ الْخُلَفَاءِ مَعَهُمْ يَنْصُرُهُمْ اللَّهُ وَيُؤَيِّدُهُمْ . وَكَذَلِكَ الْخَلِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَدْفُونٌ بِالشَّامِ وَقَدْ اسْتَوْلَى النَّصَارَى عَلَى تِلْكَ الْبِلَادِ قَرِيبًا مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ وَكَانَ أَهْلُهَا فِي شَرٍّ .
فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الْمَيِّتَ يَدْفَعُ عَنْ الْحَيِّ مَعَ كَوْنِ الْحَيِّ عَامِلًا بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ فَهُوَ غالط . وَكَذَلِكَ إذَا ظَنَّ أَنَّ بَرَكَةَ الشَّخْصِ تَعُودُ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ بِهِ وَخَرَجَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، مِثْلُ أَنْ يَظُنُّ أَنَّ بَرَكَةَ السُّجُودِ لِغَيْرِهِ وَتَقْبِيلَ الْأَرْضِ عِنْدَهُ وَنَحْوَ ذَلِكَ يُحَصِّلُ لَهُ السَّعَادَةَ ؛ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِطَاعَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اعْتَقَدَ أَنَّ ذَلِكَ الشَّخْصَ يَشْفَعُ لَهُ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ مَحَبَّتِهِ وَانْتِسَابِهِ إلَيْهِ ، فَهَذِهِ الْأُمُورُ ، وَنَحْوُهَا مِمَّا فِيهِ مُخَالَفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَهُوَ مِنْ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْبِدَعِ : بَاطِلٌ لَا يَجُوزُ اعْتِقَادُهُ وَلَا اعْتِمَادُهُ . وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ . " انتهى .
"مجموع الفتاوى" (11/113-115) .
وقال ـ رحمه الله ـ أيضا :
وقول القائل : " أنا في بركة فلان " و " تحت نظره " إن أراد بذلك أن نظره ، وبركته مستقلة بتحصيل المصالح ، ودفع المضار : فكذب ، وإن أراد أن فلاناً دعا لي فانتفعت بدعائه ، أو أنه علَّمني ، وأدبني ، فأنا في بركة ما انتفعتُ به من تعليمه ، وتأديبه : فصحيح ، وإن أراد بذلك أنه بعد موته يجلب المنافع ، ويدفع المضار ، أو مجرد صلاحه ، ودينه ، وقربه من الله ينفعني من غير أن يطيع الله : فكذب .
" الفتاوى الكبرى " ( 5 / 358 ) .
وسئل الشيخ محمد بن إبراهيم – رحمه الله – عن قول :
" كلك بركة " ، أو " هذه من بركاتك " ؟ .
فأجاب :
لا بأس بذلك ، كما في قول أسيد بن حضير : " ما هي بأَول بركتكم يا آل أَبي بكر " ، إذا تلمَّح أَن فيه البركات التي جعل الله فيه ، أَو أَن الله الذي جعل فيه البركة ، والبركات .
والممنوع : " تباركت علينا يا فلان " .
وسئل – كذلك – عن قول :
" وأعاد علينا من بركته " عبارة شارح " زاد المستقنع " :
فأجاب :
يعني بركة علمه ، وليس المراد بركة ذاته ؛ فإن الذوات جعل الله فيها ما جعل من البركة ، ولكن لا تصلح للتبرك بها ، إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، من أَبعاضه ، كرِيقه ، ولا يقاس على النبي صلى الله عليه وسلم غيره ، والصحابة ما فعلوا مع أَبي بكر ، وعمر من قصد البركة فيهما كما فعلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم .
" فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم " ( 1 / 103 ) .
وحسن الظن بالمؤلف يقتضي القول أنه أراد أنه استفاد من علوم أولئك الذي وصفهم بما نقلته عنه ، والظاهر أنه يدعو الله تعالى أن ينفعه بما تعلمه منهم ، وهي البركة التي جاءته منهم .
ثالثاً:
وما فهمه الأخ السائل من كون قصد المؤلف ابن الجوزي أن مقولته تعني " التبرك بقبورهم " : بعيد جدّاً عن الصواب ؛ لما قدمناه من التفصيل النافع إن شاء الله ، في أن المقصود علم أولئك العلماء ، وليس ذواتهم فضلاً أن يكون المراد به قبورهم ! ، وهل يتبرك بالقبور عاقل فضلاً عن عالم ؟! .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله - :
وأما التبرك بها - يعني : بالقبور - : فإن كان يعتقد أنها تنفع من دون الله عز وجل : فهذا شرك في الربوبية ، مخرج عن الملة ، وإن كان يعتقد أنها سبب ، وليست تنفع من دون الله : فهو ضال غير مصيب ، وما اعتقده : فإنه من الشرك الأصغر ، فعلى من ابتلي بمثل هذه المسائل أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأن يقلع عن ذلك قبل أن يفاجئه الموت فينتقل من الدنيا على أسوأ حال .
والله أعلم .
" مجموع فتاوى الشيخ العثيمين " ( 2 / 231 ، 232 ، سؤال رقم 290 )