ليس شهرا عاديا يتوالى فيه الليل والنهار ولكنه معنى يتصل بحركة الأرض والكون وما في الوجدان من فكر وعقيدة. إنه محاولة لتجسيد الزمن المجرد وإكسابه معنى من خلال الطقوس والشعائر بحيث يتحول هذا الشهر عبر التاريخ إلى علامات فارقة. قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون* أياما معدودات فمن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون البقرة 183- 184. فرض الله تعالى الصيام على المسلمين في السنة الثانية للهجرة النبوية، ومن يستعرض أحداث التاريخ الإسلامي يجد أن هذا الشهر كان موعدا ووعدا للمسلمين. لم يكن موهوبا للجوع والتكاسل ولكنه شهر الجهاد والفتوحات والعمل التاريخي العظيم. بل إن الكتب السماوية قد تنزلت على أنبياء الله عليهم السلام في شهر رمضان . فقد جاء في تفسير القرآن العظيم لابن كثير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان والإنجيل لثلاث عشرة خلت من رمضان وأنزل القرآن لأربع قال تعالى شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان سورة البقرة 185. وهذا هو سبب جعل الله هذا الشهر مخصصا للصوم والعبادة، تكريما له ونظرا لما يبعثه الصوم في النفس من عوامل الخشوع وكبحها عن الصغائر والدنايا. وقد سميت الليلة التي بدأ فيها نزول القرآن بليلة القدر تنويها بمكانتها وقدرها إنا أنزلناه في ليلة القدر* وما أدراك ما ليلة القدر* ليلة القدر خير من ألف شهر وكانت أولى الآيات التي نزلت في هذه الليلة المباركة قوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق . انتصارات وفتوحات وفي السنة الثانية من الهجرة وفي السابع عشر من رمضان كانت غزوة بدر الكبرى - التي تحقق فيها أول انتصارات الجيش الإسلامي على قوى الشرك والباطل. وقد دارت حول بئر ماء بدر وكانت أعداد المشركين من قريش ثلاثة أضعاف جيش المسلمين وكان الرسول عليه الصلاة والسلام استحث أصحابه على الصبر والتضحية فصبروا وجاهدوا حتى نالوا نصرا عزيزا. وفي رمضان من السنة الرابعة للهجرة تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم بأم المؤمنين السيدة زينب بنت خزيمة بن الحارث والتي لقبت بأم المساكين. وفي رمضان من السنة الثامنة من الهجرة أعز الله تعالى الإسلام والمسلمين بفتح مكة بعد أن نقضت قريش عهد الحديبية الذي كان قائما بينهم وبين الرسول وقد كان لهذا الفتح أثره في توحيد كلمة القبائل العربية وبداية عهد جديد من عهود الدولة الإسلامية، قال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . وفي رمضان من السنة التاسعة للهجرة كانت غزوة تبوك، وفي التاسعة جاءت وفود قبيلة ثقيف تبايع الرسول وتعلن دخولها في الإسلام. ولم تتوقف الانتصارات والفتوحات الإسلامية في رمضان . وقد أثبتت الأحداث أن هذا الشهر كان دوما شهر جهاد، ففي رمضان من عام 53 هـ فتح العرب جزيرة رودس وبدأوا بهذا صفحة جديدة من تاريخهم البحري تواصل وتطور حتى استطاعوا فتح الأندلس في رمضان عام 91 هـ. وقد بدأ هذا الفتح المهم عندما أرسل موسى بن نصير قوة من فرسان العرب بقيادة (طريف) لارتياد الشاطئ الجنوبي للأندلس فعبروا البحر وغزوا الثغور، وكانت هذه مقدمة الفتح الذي قام به العرب في العام التالي عندما قاد طارق بن زياد جيشا من اثني عشر ألف مقاتل لينزل في جبل طارق ويقابل جيش الملك "رودريك " في رمضان ويهزمه.. ويبقى السؤال: هل أحرق طارق بن زياد سفنه أم لا؟ إن المؤرخين يشككون في هذه الواقعة ولكن الأمر المؤكد هو أن فتح الأندلس كان باهرا. معارك تاريخية وتتوالى أحداث رمضان ولا تكل ذاكرة التاريخ.. في رمضان من عام 129 هـ ظهرت دعوة بني العباس في خراسان بزعامة أبي مسلم الخراساني وبعد ذلك بثلاثة أعوام فقط في رمضان 132 هـ استولى أبوالعباس عبدالله أول الخلفاء العباسيين على دمشق وسقطت الدولة الأموية وقامت الدولة العباسية. وفي رمضان 361 هـ تم بناء الجامع الأزهر في القاهرة وارتفعت فيه أول التكبيرات في عهد الخليفة المعز لدين الله.. وتحول الجامع بعد ذلك إلى جامعة علمية تدرس فيها علوم الدين والشريعة وإلى مركز للمقاومة والحفاظ على الروح القومية عند الشعب المصري. وفي رمضان عام 584 هـ قاتل صلاح الدين الأيوبي الصليبيين.. وفي غمرة المعارك أقبل عليه شهر رمضان فنصحه قواده بالراحة في هذا الشهر ولكنه قال: "العمر قصير والأجل غير مأمون" وسار في منتصف رمضان وحاصر قلعة صفد وتواصل القتال حتى استولى عليها. وفي رمضان من عام 658 هـ تصدى الجيش المصري لزحف التتار على الشرق، ووقف السلطان قطز في عين جالوت كي يذيق جحافل التتار أول هزيمة لهم بحيث جعلهم يتراجعون وبدأ من هذا التاريخ حكم المماليك لمصر. وتواصلت انتصارات المسلمين في شهر رمضان حين عبرت القوات المصرية خط بارليف واجتازت القوات السورية هضبة الجولان في رمضان 1393 هجرية وانتصرت على القوات الصهيونية وكانت هذه أول هزيمة تمنى بها إسرائيل في الصراع العربي الإسرائيلي. هذا هو شهر رمضان المعظم... وهذه هي أحداثه العظيمة.