أخيرا , أقلعت الطائرة الى" بوسطن"
تخترق الغيوم نحو هذه المدينة التي لم أزرها من قبل .. ولا ادري إن كان أحسستم من قبل بارتباط شعوري بمدينة لم تروها قط .!
لكن حلم بوسطن كان يدغدغني منذ مراهقتي الأولى , حتى أني أحفظ شوارعها
وطرقها , وبإمكاني أن أتحدث مع ساكنيها عن المدينة ومشاكلها كأني محافظها !
لا أدري كيف ترعرعت في خلايا عقلي الباطن مثل هذه الأمنية حتى تشبعت بها
روحي وقاتلت من أجل السفر اليها ببسالة عنترة في انقاذ عبلة ..
فدخلت في صراعات مع والدي من أجل اقناعهم بالسفر .. وحصلت على أعلى الدرجات
الدراسية ليتم قبولي فيها , وتنازلت عن كل الإغراءات المادية في سبيل الوصول الى بوسطن .. وها أنا قادمة" يا بوسطن"
في الوقت نفسه الذي كنت أفكر فيه بأن آخذ الميكرفون من كابتن الطائرة ,
لأٌعلن لكل المسافرين : رغم كل العقد الإجتماعية التي تحارب الأنثى بالخليج
.. وربطي بكرسي الجامعة القريبة من منزلنا .. ( مريم ذاهبة إلى بوسطن ) .!
إنقطعت سخافتي وتخيلاتي وأنا أتحسس تلك "المظاريف" الثلاثة المخبأة تحت
ملابسي , فقد أعطتني إياها جدتي في اللحظات الأخيرة قبل دخولي قاعة
المسافرين في المطار ..
لم أتمكن من إدخالها في الشنطة فهربتها في ملابسي ..
أخرجت المظاريف الثلاثة وأنا أبتسم في قرارة نفسي ، فقد شعرت لحظتها وأنا أخفي هذه الظروف تحت ملابسي بأني مُهربة ممنوعات!
والغريب لا أدري ما فيها , كل ما أعرفه أن جدتي أسلبت ملح عينها وأعطتني هذه الظروف , وقالت لي : افتحيها وقت الضيق والحاجة .!
- ولكن متى وقت الحاجة اليها ؟
- حينما لا تجدين أحداً يحمل همك أو يمسح كآبتك؟
- وأي كآبة ياجدتي في بوسطن ؟! إنها حلمي.!
مسحَت تلك الدمعة الغالبة وهي تحاول عبثا الإبتسام .!!
أنا مثلكم مستغربة تماما..
فجدتي إنسانة واضحة .. بل صافية جداً .. وهي من ذلك النوع الملائكي السمح،
لا أدخل عليها إلا مصلية ساجدة أو ذاكرة لله تالية للقران لا تتحدث بغير
الخير .. كل الأمور في نظرها ماديات تافهة ..!
تحب المُسيئين إليها بطريقة تجنني ودائما تجد الأعذار للمخطئين والمقصرين
.. لم أرى في حياتي وجهاً يبعث الراحة والطمأنينة في قلوب الناس كوجهها ..
أُخالُها واحدة من السَّلف الصالح حينما أراها .!
كنت أسأل نفسي ماذا يكون في هذه المظاريف ؟
فلوس !! أو وصفة طعام ( فهي تجيد التعامل مع القدور ) ! أو دواء !! أرقام تلفونات !!
بالرغم من شغفي الشديد إلا أني سألزم وصيتها وسأفتحها في أقصى حالات الكآبة .!
سأختصر لكم بوسطن بعد وصولي لها بثلاثة اشهر في كلمة واحدة : خيبة أملللللللللللللل !!
ففي خلال اسابيع قليلة - بعد عودة أخي الذي اوصلني واطمآن على اموري - ماتت تدريجيا "متعة الشىء الجديد"
وبدأت أعيش واقعية اكثر . لا أهل . لا عائلة .. لا أصدقاء .. حياة صعبة .. لا خادمة لا سائق غلاء مادي فاحش ..
ومما يعقد الموضوع أن الناس هنا مستعجلون مشغولون , لا يلتفتون إلى مريم
التى جاءت من أعماق صحراء شبه الجزيرة العربية التي تفيض بالبترول .. كل
أصدقائي بالجامعة تنتهي علاقتي بهم بانتهاء الدراسة , صديقتاي بالسكن
مجنونات! لكل منهما عالمها الخاص , الأولى مدمنة كمبيوتر لا تغادر الشاشة ,
والثانية تصاحب المخدة ولا تغادر فراشها إلا للضرورة القصوى , والوحدة
القاتله !
كنت أعتقد أني سأنال حرية أكبر وأكثر هنا , ولكن الحقيقة أن حياتي لم تتغير كثيرا ,لا ملابسي ولا مواعيد خروجي ,
فكل ما تغير هو الوجوه الشقراء والعيون الملونة بدلاً من السواد العربي
الجميل الذي يزحف تلك الكآبة في شرايني بشكل تدريجي .. وبدأت أنياب الوحدة
تنتوشني وظننت أنها أنياب الوحدة !!
وبدأت أعوض تلك الغربه النفسية بكثرة الخروج والتسوق وزيارت الصديقات!!
ولكن مهلاً أنا من عائلة متوسطة وأعتمد على معاش البعثة الدراسية .. وبسبب
المعارك الضارية التي خضتها مع والدي فقد وعدتهما أني لن أطلب منهما مالاً
قط .!
وبسبب الخروج المكثف وأكياس التسوق المكدسة وجدت نفسي في أسابيع قليلة مفلسة مكسوره !!
ولو أني في بيتنا لكان الأمر هينا , فالأكل والشراب والإقامة مجانية أما
هنا فعلي أن أدفع أجره وثمن كل لقمة همبرغر أبلعها ! ولكني لم أنتبه لذلك
..!
ووقعت في ورطة ؟ فخلال أسبوعين سيحل موعد الإيجار (الذي أتقاسمه مع ثلاث من صديقاتي ) فما العمل؟؟؟
ظللت ساهرة طوال الليل أفكر في حل لما أنا فيه .. هل أتحدث مع أمي .. لالا
مستحيل , ماذا ستقول ؟ لم تستطيعي أن تصمدي في الشهور الأولى !
هل أطلب من صديقاتي أن يدفعن الأجرة عني في هذا الشهر ؟ لا .. كرامتي لا تسمح لي بذلك!
آآه .. تذكرت أظرف جدتي .. لا بد أنها تحوي فلوساً وأنا في حالة صعبة ! سافتح أحداها ,
فتحت الإنارة وتوجهت إلى المكان الذي أخبئ فيه هذه الأظرف , قلبتها بين
أناملي مسحت إحداها كما تمسح الحامل على بطنها تتحسس الطفل في رحمها ,,
لاحظت أن الأظرف مرقمة , فأخذت الظرف الأول وفتحته
يا لخيبة الأمل .. لم أرى فيه فلوسا .. فقد كان بداخله ورقة مطوية فضضتها
على عجل لأجد ورقة كبيرة مكتوب عليها سطر يتيم , بخط عجوز مرتعش ..
’’’’’’’ كيف أخشى الفقر .. وأنا عبد الغني ’’’’’’
أخذت أتفكر في جمال هذه العبارة المكتوبة بخط جدتي الذي تعلمته بالكٌتاب ..
وأنا أنظر من نافذتي إلى ناطحات السحاب والمباني النائمة على أرصفة بوسطن
فبدت لي هذه الحروف أكثر شموخا من ذلك الأسمنت الخانق ..
وسرى بداخلي هاتف يقول : ’’يا مريم هل ترين كل هذه الأبنية الشاهقة ،
البنوك المملوءة بالأوراق الخضراء .. شاشات الأسهم المتصاعدة .. رجال
الأعمال الكادحين .. وهذا العالم المترامي , الذي هو نقطة في هذا الكون
الشاسع وكل ما في هذا الكون هو رزق من الكريم الوهاب ..
فهل تشُكّين في كرم الله .. قفي بين يديه واطلبيه فأنتي أمتهُ وهو يحب عباده وكريم معهم ..!
وبلا شعور .. توضأت وصليت. وفي الحقيقة منذ وصلت إلى هنا ولا أحد يشجعني على الصلاة فتذبذبت صلاتي وتقطعت إلى أن اغبرّت سجادتي ..
فتذللت إلى الله ذِلَة المحتاج .. وكلي أمل بكرم الكريم ودعوت الله وقد كان دعاء صادقا خالصا من قلبي ..
ثم أخذت المصحف وبدأت أقرأ فيه من أوله وقرأت حتى وصلت
إلى قوله تعالى : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا
فيضاعفة له أضعافا كثيره والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) سورة البقرة .!
وقررت أن أتوكل على الله وأن أبحث عن عمل في الصباح الباكر .. وتوجهت إلى
المركز الإسلامى , وتبرعت بمبلغ صغير ، وأنا أجدد نيتي في كل لحظة بأني
أدفع هذا المبلغ لوجه الله , ساعية لثوابه لا لسبب آخر ..!
بدأت أذكر نفسي بتـُكالي على الغني وأكرر قول جدتي ’ ’كيف أخشى الفقر وأنا
عبد الغني ’’ ومضى وجه النهار ولم أجد وظيفة ، عدت إلى بيتي في المساء
منهارة ما في جيبي غير دولارات لا تكفي ليومين !!
فتحت بريدى الإكتروني لأجد إحدى صديقاتي قد أرسلت لي رسالة تعتذر عن عدم
اهدائى هدية تخرجي لظروف سفرها وبسبب بعد المسافة بيننا فلن تتمكن من إرسال
هديتها لي لذا فهي تريد رقم حسابي
لكي تحول لي مبلغاً ماليا !!
سبحانك ياغني ..! ترزق الطائر الأعمى في عشه ..والنسر الصغير فوق جبله .. والسمكة في قاع المحيط ..
فقمت وصليت من فوري ,,,, "وبوجه عريض" أرسلت لها رقم حسابي وحولت لي مبلغا كاف ليومين بعد يومين أنقذني من تلك الورطة ..!
حمداً لك يا رب .. وشكراً لك يا جدتي .!
قللت خروجي ومصاريفي بشكل واضح وتعلمت معنى التوكل عليه والتعلق به في كل صغيرة وكبيرة .. ولكن تلك الغربة والوحدة ظلت تلاحقني ..
ساءت حالتي النفسية .. بدأت لا أتحدث كثيراً لا أحب الخروج .. سَلوَتي في
محاضراتي ودراستي فقط ومع الأيام بدأت تزيد الخلافات مع صديقاتي في الجامعة
والسكن حيث بدأ التابيُن في الشخصيات والأخلاق بشكل ملحوظ .. حتى صديقاتي
في الخليج انقطعت علاقتي بهن حتى أني أحسست أني أقبع خلف القضبان بالرغم من
حريتي .. وجدتني مسجونة وحيدة في بلاد الغربة !
وعدت الى دُرجي أخرج الظرف الثاني .. ولم أقوى على فتحه لمدة ثلاث أيام
فوضعته على الطاولة أقلبه كمنتحر يمسك بمسدس بين يديه يراجع قرار انتحاره
أياما ..
وفي اليوم الثالث خنقتني الكآبة وطرحتني الوحدة أرضا فوجدتني أفض الورقة بيد مرتعشة وأنا متأكدة أنها ستكون سببا في شفائي ..
ما هذا ؟ لم أجد ورقة فيه هذه المرة .. بل وجدت قطعة صغيرة على شكل الرقم ( 5 ) !!فحصت الرقم من جوانبه فلم أجد فيه شئ يُذكر ..
سألت نفسي ما الذي يمكن أن يعنية رقم 5 ! وكيف تعالج 5 حالة الكآبة التي أعانيها !
بعد فترة من التفكير قفزت إلىعقلي تلك العبارة الشهيرة التي تكررها جدتي باستمرار وهي تفرد أصابعها الخمس بوجهنا :
"" كيف الوحشة .. ونحن نلتقي بة خمس مرات في اليوم ""
يالغبائي .. كيف لم أدرك بأن الرقم 5 هو خمس صلوات في اليوم ! وبدأت باتباع
وصفتها .. أصلي الصلوات الخمس في اليوم على وقتها مهما كانت الظروف .. وفي
أقل من ثلاثة أيام إنتفضت نفسي طاردة تلك الوحدة والكآبة , وأحسست بأني
خارجة لتوي من السجن .. فجزاك الله عني خير الجزاء يا جدة !
مريم ..إسم جميل , أليس كذلك ؟
ويبدأ بالميم وينتهي بالميم ولن تجد كلمة تحوي ميمَين إلا كلمة "ماما" لأن
حرف الميم فيه صوت رخيم حنون يبعث بالطمأنينة، لذلك تجد كلمة أم في كل لغات
الدنيا تحوي حرف الطمأنينة ..
وهذا الحرف رائع الرسم . فأنا دائما أراه كشَفاة المى لفتاة صغيرة الفم ..
أو أراه كعين نجلاء واسعة العمق وجميلة المعاني .. وقد أسمتني جدتي بهذا
الإسم , وحينما سألتها عن السر قالت:
يا ابنتي هو إسم اختاره الله للعذراء , وأنا اخترته لك لأني أتوسم فيك نقاوة وبياضا !
لكن يا جدتي أنا فتاة شقية ؟
وهل الشقاوة إلا إنعكاس لبراءتنا وصفاءنا التى تدفعنا لأن نعبر عن أنفسنا دون خوف !!
ولعل تلك المرأة هي التي علمتني كيف أكون شقية مُحبة لشقاوتي دون أن أوذي أحداً من خلقه ..
ولا أخفيكم أني بعد التزامي بالصلوات الخمس في مواعيدها زال عني الكثير من حِمل تلك الغربة
القاسية وتشافيت من سياطها وعدت إلى شقاوتي البريئة التى اكسبتني مجتمعا من الصديقات الجديدات لكن لكل شئ إذا ما تم نقصان !
ففي أول يوم من رمضان اتصلت صديقتي من الخليج .. باكية تعزيني ..
فأجبتها من وراء الهاتف :
عظم الله أجري ! لماذا ؟ من المتوفي ؟
تلعثمت صديقتي .. إذ كانت تظن أني أعرف , لكنها فوجئت بجهلي وبدأت أصرخ على
الهاتف وانتحب .. أطالبها بأن تكشف الحقيقة , فأتتني بذلك الخبر الذي
كذبته آمآلي .. موت جدتي !!
كيف تموت ؟ كيف سيكون موقف العائلة بعد ذهاب أم الخير والنور ؟؟ ما الذي سيعوض بركة تلاوتها وصلاتها كل يوم ؟؟
ومادت بي كل الارض .!
وعلمت خلال ساعات أنهم أرسلو أخي الأكبر على أول طائرة ليخبرني بالخبر ويحملني لمراسم العزاء ..
إلا أني عرفت الخبر قبل قدومه ..
اعتزلت غرفتي فالعزلة في حقيقتها تمكنك من الإتصال بذاتك.. من قراءة تاريخك الشخصي .. أما الإختلاط بالناس فيعكر ذلك الصفاء ..
أردت ساعتها أن أحزن دون أن يعكر أحد صفوة حزني أردت أن أبكيها وأتذكرها
دون أن يفسد الآخرون عليّ متعة الدموع .. وظللت هكذا منغمسة مستمتعة بحزني
وبكائي لساعات طويلة ..
ثم وجدت جسدي يقوم من مكانه ويخطو كالماشي في النوم نحو "الدُرج" ويستل
رسالتها الأخيرة لأشمها وأضمها في صدري .. ثم تقرفصت على فراشي .. وجففت
دموعي بلعت غصة حزن كانت في ريقي وجلست أتامل رسالتها الأخيرة ..
قبلت الرسالة كأني أقبل يدّين جدتي .. أحيانا تكون الأشياء الصغيرة
امتداداً لجوارح الناس وكانت تلك الرسالة امتداداً لبشرتها النقية الصافية
وبعد ساعات قلبت فيها الرسالة عاجزة عن فتحها .. جمعت ما تبقى في نفسي من عزم وشجاعة ..
وفتحت الرسالة الثالثة وقرأت ما فيها :
( كنتِ أجمل ما في حياتي يا مريومتي الصغيرة ولطالما سألتِني عن السر في
إسمك .. أحببت أن أتركه لك سراً لتجتهدي بالبحث عنه وتقدريه أكثر .. السر
في إسمك يا مريم هو :
( كهيعص .. والنداء الخفي )
انتهت رسالتها بينما تركزت عيناي على السطر الأخير , كهيعص , هي الحروف الأولى من "سورة مريم" تلك السورة التي أحمل أسمها.
هُرِعت أفتح المصحف الشريف لأقرأ السورة الكريمة :
كهيعص (1) ذكر رحمة ربك عبده زكريا (2) إذ نادى ربه نداءً خفيا (3)
ياااااااااه كم يبدو لفظ " نداء خفيا " رقراقاً وصافيا ومؤثراً في النفس !!
من منا ينادي ربه !! ومن منا يناجيه في الخفاء ومن منا يستغل سجادته في
الليل ليحادث مالك المُلك يرجوه ويدعوه ويأنس به !!
أكملت قراءت سورة مريم .. ورفعت يدي أناديه وأناجيه أن يغفر لها ويرحمها .. وقضيت ليلي أناجيه وأحادثه طول الليل .!
وفي الصباح وصل اخي .. ليفاجأ برؤيتي متماسكة هادئة وادعة بل مبتسمة !
ومن يومها أصبحت مثلها .. دائمة الإبتسام كثيرة النداء الخفي مفتخرة بإسمي
مريم ولم يرني أحد قاطبة أو متضايقة .... فأنا لا أخشى الفقر : لأني أمَة
الغني ..
وأنا لا تزورني الوحشة والكآبة: لأني آنس به سبحانه وتعالى خمس مرات في اليوم ..!!
وأنا سعيدة لأني أستغل لحظات يومي بذكره وليلي بمناجاته ....!!
كيف لا تكون هذه حالى ! وأنا أعيش ( لِذة الطاعة ) .!
دمتم بخير