تاريخ فلسطين معركة اليرموك:
رتبت الأقدار موعدَها، واختارت ساحتَها، وموقعَها، تلك المعركة الأم في صراع المسلمين مع الروم، وحقا لم تكن صراعا على مدينة عتيقة كدمشقَ أو بيت المقدس، إلا أنها شهدت حشودا عظيمة من الفريقين، والمنتصر اليوم سيكون الأقربَ للاستيلاء على مدن الشام ووديانها وحواضرها.
اجتمع الرومان ونزلوا الواقوصة على ضفاف نهر اليرموك، وعسكر المسلمون بمحاذاتهم في انتظار قواتِ خالد بن الوليد القادمة من العراق، وبوصولها بدأ خالد ينظم جيشه، ويوزع الأدوار على رجاله، ولم يستعجل الاصطدام بالعدو عند بدء رؤيتهم في ساحة القتال، بل راح يعدِّل في خطته لتتواءم مع ما رأى من قوات العدو، فوزع خيلَه فرقتين لتأخذَ الرومَ من ظهورها إن اشتد ضغطُها على المسلمين... وفي وسط هذا الزحام واللقاء المرتقب لم ينس المسلمون التوجُّهَ إلى الروم بدعوتهم إلى دين الله، وتركِ ما هم عليه من الضلال، لكن القلوب كانت في أغلفة من الغفلة والغرور.
وراح عكرمةُ بن أبي جهل والقَعْقَاعُ بن عمرو يشعلان فتيلَ الحرب، فاشتد القتال، وارتفع لهيب الصراع، ما بين تقدمٍ وتراجعٍ، حتى نجحت خيل خالد بن الوليد في تمزيق شمل الروم والدخول بين صفوفهم..
واستمرت الحرب حتى أعطت السيوف والجنود كل ما لديهم، وتحقق للمسلمين نصر مبين، وذلك في جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة للهجرة النبوية.
والمعنى المباشر لهذا النصر، هو أن جزءا كبيرا من قوة الروم قد انهدم، مما يقرب أكثر من تحقيق البشارة، ودخول المسلمين بيتَ المقدس المبارك.
فتح فِلَسْطِين:
معركة " أَجْنادِين" من الجولات الحربية الكبرى للمسلمين في الشام، إذ آذنت بغروب شمس الروم عن البلاد، وإشراق شمس المسلمين فوق رُبَاهَا وفى مدنها وعلى شواطئها وبَوادِيهَا، وهي من معارك الفتح في فلسطين، الذي كان مهمة عمرو بن العاص وجيشه.
وقد كانت الذاكرة الإسلامية عند التحرك جهة فلسطين وقلبها القدس، تحمل الميراث القرآني العظيم عن هذه المنطقة، التي باركها الله، وجعلها مقصدا للأنبياء، وآخي في القداسة بينها وبين المسجد الحرام، وجعلها الموقع المختار الذي انتهت عنده رحلة الإسراء وابتدأت منه رحلة المعراج.. ولا شك أن نفس المسلم حين تُقْبل على الفتح بهذه الروح ستكون الهيبة ثيابا تزينها، ولن يكون دخول المدينة قتلا ولا نهبا، ولا إفسادا في أرض الله، كما فعلت أمم شتى قبل ذلك وبعده.
وقد جرت معارك الفتح في فِلَسْطِين صراعا بين رأسَيْن كبيريْن في عالم الدهاء، هما عمرو بن العاص والأمير الروماني الأَرْطِبون، وانتهت وقائعه بانتصار عمرو بن العاص وجنوده.
كما كانت هذه المعارك صراعا على بلاد امتلأت بالقداسة، وزاحم هواءَها عبيرُ النبوة التي عاشت هنا من قبل..
خاض عمرو بن العاص ضد الروم معركة أَجْنَادِين الشرسة، وفتح النصرُ فيها الطريق أمامه إلى بيت المقدس، فبدأ أولا بما حولها من المدن ليمنع عنها المددَ والمساعدة. وبعد حصار طويل انسحب الرومان من القدس، وسلَّم أهلُ المدينة، وطلبوا الصلحَ على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيحَها. وفي الجابيةِ التقى عمر بن الخطاب مع قادته في الشام، فتلقَّوْه بالاحترام والإجلال، ثم تسلم مفاتيح بيت المقدس من الأساقفة، وقام ومعه المسلمون بتنظيف الحرم الشريف، وأقام هناك مسجدًا.
وكلف أمير المؤمنين القائدَ معاويةَ بن أبي سفيان بفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ، ليكتمل فتح فلسطين حتى الشواطئ الغربية المالحة.
معركة أَجْنَادِين:
وصل عمرو بن العاص بجيشه إلى أجنادين، فوجد القائد الرومي أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره، ووضع جندا كثيفا لحماية القدس، وآخر لحماية الرملة، فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عن الأرطبون، وأرسل قوة لمشاغلة حامية الروم في الرملة، وقوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في القدس، وأقام المسلمون في أَجْنَادِين يأتيهم المددُ، ولا يأتي عدوهم.
لكن عَمْرًا لم يجد لخَصْمِه ثغرة، ولم يعرف له خطة، فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد، أو يطَّلِعون على خططِهم وترتيباتهم للحرب.
لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضروري للانتصار عليه، لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء، فقرر أن يخوض المغامرة بنفسه، وذهب إلى أَرْطِبُون في عرينه متخفيا في صورة رسول من المسلمين، ودخل عليه وكلَّمه، وعرف مداخلَه ومخارجَه، وأوقع قائدَ الروم في حبائل دهائه الرهيبة، إذ حاول القائد أن يقتله لِمَا رأى من ذكائه، وشكَّ في أنه قد يكون عمرا نفسه، وأدرك القائد المسلم ما يدبر له فوعد أرطبون بأن يزوره مرة أخرى ومعه أمثاله من أبناء عمومته من العرب، فطمع قائد الروم في غنيمة أكبر..
لكن عودة عمرو لم تكن سارة للقائد الرومي، إذ أقبل بجيشه وقواته، مما كان إيذانا ببدء قتال حام في أَجْنَادِين، كان الناس وقودا سهلا له، ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أي من الجانبين..
ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر، فكان المسلمون أكثرَ صبرا، كما قوَّت انتصارات إخوانهم في مدن سوريا من عزائمهم ومعنوياتهم...
وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره في الصفوف فوجد رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد، واضطربت صفوفهم، وأن المسلمين يحصدونهم بسيوفهم حصدا، ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر، فانسحب بهزيمة ثقيلة إلى بيت المقدس الحصينة محتميا بها، وذلك في النصف الثاني من سنة خمس عشرة للهجرة.
معاويةُ يفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ:
طار كتابٌ من أمير المؤمنين عمر إلى الأمير الموهوب معاويةَ بن أبي سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ، فسار إليها بروحِه الوثَّابةِ، وحاصرها، فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ عنها، وثبت المسلمون في مواضعهم، فإذا بالقدَر الإلهي يمهد لفتح المدينة من باب لطفٍ إلهي خفي، لقد جاء يهودي إلى المسلمين ليلا، وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه المدينة، على أن يؤمِّنوه وأهلَه، فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبّروا فيها، فتزلزلت الأرض بالروم، وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية، ففروا لا يفكرون في شيء إلا النجاة بأنفسهم، فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين، ثم كتب عمر إلى معاويةَ بفتح ما بقي من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة، فمال معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ، ففتحها صلحا.
البشارة النبوية بفتح بيت المقدس:
روى البخاري في صحيحه عن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ حتى أحصى ستة أشياء.
هكذا أتت البشارة النبوية بفتح بيت المقدس واضحة صريحة، وحددت بدقة أن الفتح لن يكون في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل بعد لحاقه بالرفيق الأعلى..
لقد كانت الذاكرة النبوية وهو في تبوك، على مقربة من بيت المقدس، تستحضر وضع المدينة المباركة، والأَسْر الطويل الذي وقعت فيه، فلا زالت القوى الغريبة عنها تسيطر عليها..
جاءت البشارة في زمن كان الروم فيه يسيطرون بقوة على المدينة المباركة، حتى إن الناظر إلى حالها يتيقن تماما أنهم لن يخرجوا منها، وظن الروم أن المدينة التي استرجعوها من بين أنياب الفرس لن تخرج من أيديهم مرة أخرى أبدا..
لقد خرجت البشرى من رحم الواقع الصعب، لكنها إلهية المصدر، وليست اجتهادا من النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، ولأنها إلهية فإن كثرة المعوقات، وصعوبة الطريق لن تحول بينها وبين التحقق.. (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا..).
فتح بيت المقدس:
عقب معركة أجنادين تمهَّد الطريق أمام المسلمين نحو القدس، وأسرعت خُطى التاريخ، واقترب اليوم الخالد، يوم الفتح الذي يُذَكِّر بفتح مكة، فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس، بل قل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ، تلك التي لازمتْها القداسة حتى في اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها، فهذا الخليل وابنه إسحاق، ويعقوب وبنوه، وهذا داود وابنه سليمان، وهذه مريم وابنها، وزكريا ويحيى، وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..
حرص عمرو بن العاص قبل أن يأتي بجنوده إلى القدس والرَّمْلة على أن يفتح ما حولهما من المدن، ليمنع عن الروم أي مدد، فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم، أو تتلطخ بقتال ينتهك حرمتها.
وبدا الروم لدى مقدم عمرو بجيشه محبوسين بين جدران المدينة التي صبغوها بمذهبهم في المسيح، وأرادوا أن يفرضوه على العرب والقبط في الشام ومصر وغيرهما..
ولم تكن بيت المقدس في ذلك الحين سوى مدينة رومانية في اسمها (إيلياء)، ورومانيةٍ في طراز أغلب مبانيها، يتجول في شوارعها جنود الإمبراطورية، وتتحرك في أنحائها وجوه من عناصر شتى، غير أن سمت أهلها من العرب لا تخطئه عين الناظرين.
كانت المدينة قد ضاقت بالاحتلال، وسمعت عن عدل الفاتحين الجدد الذين يقولون إنهم يهتدون بخُطى الأنبياء، ويضعون "إيلياء" موضع الإجلال والتقديس، ويشاركون أهل المدينة في عروبة أصولهم.
وبدأ عمرو فضرب الحصار حول المدينة أربعة أشهر، حتى ضاق صدر الروم من بأس المسلمين وصبرهم، بالرغم من الشتاء القارس والعوامل الجوية الصعبة، فانسحب أتباع قيصر والأرطبون من بيت المقدس، وودّعوها في حسرة قاتلة.
وطلب أهل المدينة الصلح، على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، فاستجاب لهم المسلمون، وأقبل عمر، في حادث من أكبر الأحداث في تاريخ المدينة المباركة، وتسلم المدينة من بِطْرِيكها صفرنيوس.
حصار المسلمين بيت المقدس:
اعتاد من يسيطر على القدس منذ القِدَم أن يلفها بالأسوار، ويقيم حولها الحصون، حماية للمدينة الغالية من الغزاة والمغامرين. وقد عُثر في الأردن على خريطة ثمينة من القرن السادس الميلادي، تشرح وضع القدس في هذا الزمن، حيث بدت محاطة بسور فيه عدة أبراج ومجموعة أبواب، وفي الداخل تبدو المباني الفخمة، وأهمها الكنائس.
وحينما قَدِمَ عمرو بقواته سنة 637م وجد المدينة حصينة منيعة، قد احتمى بها الرومان، وليس من اليسير اقتحامها عليهم، فضرب الحصار حولها، وراح يبحث عن فرصة أو فرجة للدخول، ولكن مرت ثلاثة أيام دون أن يجد شيئا من ذلك، فاستجمع قوته وتقدم نحو الأسوار، فأمطرهم الروم بالنبال، والمسلمون يصدونها بتروسهم.
وقدمت إلى عمرو معونات من القادة الآخرين بالشام، فلم يمر يوم إلا وقع فيه قتال، حتى مرت أربعة أشهر، لم يزل المسلمون فيها على القتال والحصار وأهلُ بيت المقدس لا يظهرون من قلوبهم همًا ولا جزعًا .. ليس غير المنجنيقات الضخمة ترمي بالحجارة فوق القوى المحاصِرة من المسلمين، ويحتمون داخل أسوارهم معهم السيوف والدروع ..
إلا أن طول الفترة، وصبر المسلمين العجيبَ بالرغم من البرد الشديد ـ كانت كفيلة بأن تحبط الروح المعنوية للروم، فتراجع أرطبونُ بقواته إلى مصر. ودعا أهلُ القدس إلى طلب المصالحة، فسار إليهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وصالحهم.
الفاروق عمر يسير إلى القدس:
جاء إلى عمر بن الخطاب في المدينة كتاب من أمير الفتوح في فلسطين عمرو بن العاص، يبشره بنعمة الله، وانهزام بقايا الروم في الشام، وأن أهل إيلياء (القدس) اشترطوا أن يسلّموا المدينة إلى أمير المؤمنين نفسه، فراح عمر يعد للسفر عدته، من الرفيق والزاد والراحلة، وسافر السفر الطويل، يقطع المراحل والأميال.. وعلى أبواب الشام لقي قواده في الجابية، واطمأن على حال المسلمين في بلاد الشام.
وبينما عمر في الجابية إذا بجماعة من الروم بأيديهم سيوف مسلولة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون، فساروا نحوهم، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم ـ رضي الله عنه ـ إلى ما سألوا، ثم واصل مسيره في جماعة من الصحابة ووجوه المسلمين نحو بيت المقدس.
وجاء وقت الصلاة، فتوجه أمير المؤمنين وصحبه إلى القبلة، وهم يقفون على قمة جبل يشرف على القدس، وعلا صوت عمر بن الخطاب بالتكبير، ومنذ ذلك اليوم سمى الجبل بجبل المكبِّر.
حال عمر عند سيره إلى بيت المقدس:
كان في ذاكرة عمر، وهو مرتحل من المدينة إلى بيت المقدس، أنه مسافر من مدينة النبي إلى مدينة الأنبياء، وهو حال يستوجب التواضع والهيبة، فظهرت على أمير المؤمنين في هذه الرحلة علامات عبقرية الأمير، الذي يزداد بتواضعه رفعة وسموّا.
كان هو وخادمه يتناوبان ركوب دابة واحدة في طريقهما التاريخي من المدينة إلى بيت المقدس، حتى إذا أتعب السير أحدهما ترجَّل له صاحبه عن بعيره ليركبه، وعلى مشارف القدس كان رفيق عمر هو صاحب الدَّوْر في امتطاء البعير، فأبى أمير المؤمنين إلا أن يركب صاحب الدور، وإلى جانبه سار الخليفة الفاتح على قدميه..
وقدم عمر الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، وتظهر رأس الأمير للشمس ليس عليه قلنصوة ولا عمامة، تهتز رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، معه كساء صوف يتخذه سرجا إذا ركب وفراشا إذا نزل، ومعه شملة محشوةٌ ليفا يتخذها حقيبة إذا ركب ووسادة إذا نزل، وعليه مرقعة من الصوف فيها بضع عشرة رقعة بعضها من جلد.
وعندما جاء ميعاد زيارة بيت المقدس وهمَّ الخليفة بالركوب بهيئته الزاهدة قال المسلمون: يا أمير المؤمنين، لو ركبت غير بعيرك جوادًا، ولبست ثيابًا لكان ذلك أعظم لهيبتك في قلوب القوم، فقال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً". لكنهم أقبلوا يسألونه ويطوفون به إلى أن أجابهم إلى ما يريدون، ونزع مرقعته، ولبس ثيابًا بيضاء وطرح على كتفه منديلاً من الكتان ليس جديدًا ولا بالخَلِق، دفعه إليه أبو عبيدة وقدّم له بِرْذَوْنًا أشهب (وهو نوع من الحمير الكبيرة) من براذين الروم، فلما صار عمر فوقه جعل البرذون يَحْجِل، فنزل عنه مسرعًا، ثم صاح: أقيلوني أقال الله عثرتكم يوم القيامة، لقد كاد أميركم يهلك مما داخله من الكبر، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر".. فأُتى بجمله فركبه.
وحين قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ماء، فنزل عن بعيره ونزع موقيه (وهو ما يلبس فوق الخفين)، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه البعير، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيمًا عند أهل الأرض، فضرب عمر صدره برفق، وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله".
عمر يتسلم مفاتيح بيت المقدس:
قبل أن يغادر عمر الجابيةَ في لقائه مع قواده بالشام أتاه وفد من أهل بيت المقدس يلتمسون عنده الصلح، فبذله لهم، وكتب لهم بذلك كتابا، فرجعوا وقد علموا أن هذا الكتاب وهذا الصلح نصر تحقق لهم، فقد جاءهم أمير عادل وقوم منصفون، وذهب عنهم بطش الرومان وظلمُهم واضطهادُهم.
ومضى أمير المؤمنين إلى بيت المقدس، والتواضعُ لله وحدَه يكسو عمر وأصحابَه هيبةً ووقارًا.
إنها بشارة من بشارات الصادق المصدوق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووعد من موعودات الله لخلقه المؤمنين يتحقق أمام عيون الركب المبارك، وشريط الذكريات لا زال يعيد نفسه يوم كان النبي يلقي ببشرى فتح بيت المقدس في تبوك..
ولما أشرف بطريرك بيت المقدس من السور، ورأى جمع المسلمين يتقدمهم أمير المؤمنين، صاح بأعلى صوته "هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة". وكان ذلك بقية صادقة مما في كتب أهل الكتاب عن الصالحين من أسلافهم..
ثم قال البطريرك لأهل بيت المقدس: "يا ويحكم انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة"، فنزلوا مسرعين، وكان الحصار الشديد قد أضناهم وشق عليهم، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية، فخر عمر ساجدًا لله على بعيره..
وكان ذلك شاهدًا قويًّا على أن أهالي القدس وجدوا في الدولة الإسلامية الفتية ينبوع أمن وأمان لهم ولمدينتهم، يصون لهم خصوصياتهم، ويمنحهم حرية العقيدة بلا إكراه ولا مضايقة، كما كان دليلاً واضحًا على أن انسحاب الروم من بيت المقدس كان أمرًا حتميًّا تفرضه الرغبة الشعبية في هذه المدينة ضد المستعمرين من الروم..
وكان أهم مطلب ركز عليه الوفد الشعبي لبيت المقدس الذي لقي عمر في الجابية، وطلب منه الصلح ـ هو ألا يساكنهم في المدينة أحد من اليهود. وقد أصر البطريق صفرنيوس حين عرض تسليم المدينة المقدسة للخليفة عمر بن الخطاب شخصيًا على نفس المطلب الشعبي، فوافق أمير المؤمنين على ذلك، وسجله في وثيقة محددة البنود، أضاف فيها شروطًا تنص على احترام مقدسات هذه المدينة، وما يكفل لها السلامة أيضا من بقايا الروم وعملائهم.
ودخل الفاروق المسجد الأقصى من الباب الذي دخله منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء، ونظف بنفسه الصخرة المباركة، وتسلم مفاتيح المدينة الطاهرة في لحظةٍ تاريخيةٍ من أعز لحظات الزمن. وقضى الخليفة في القدس خمسة أيام ثم رجع إلى المدينة.
لقد كان فتحًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها الطويل، والمأساوي في غالب الأحوال، فبعد أن استسلم أهل المدينة لم يَحْدُثْ قتل أو تدمير للممتلكات، أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، وأيضا لم يكن هناك طرد للسكان، أو نزع للملكية، أو محاولة لإجبار السكان على اعتناق الإسلام ..
وعاشت القدس منذ هذه اللحظة في رحاب الإسلام: بدءا من خلافة الراشدين، فالدولة الأموية، فالحكم العباسي، وما تفرع عنه من الطولونيين والإخشيديين، ثم جاء الحكم الفاطمي، ثم احتلها الصليبيون في ذيل القرن الخامس الهجري، حتى استردتها جيوش صلاح الدين بعد اثنين وتسعين عاما من الاحتلال.
الوثيقة العمرية لأهل بيت المقدس:
"بسم الله الرحمن الرحيم:
ـ هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:
ـ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.
ـ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.
ـ ولا يَسْكن بإيلياء معهم من اليهود.
ـ وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطي أهل المدائن (أي المدن الأخرى من بلاد الشام).
ـ وعليهم أن يُخْرجوا منها الروم واللصوت (أي اللصوص).
ـ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.
ـ ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعَهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.
ـ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثلُ ما على أهل إيلياء من الجزية.
ـ ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحْصَد حصادهم.
ـ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطَوا الذي عليهم من الجزية.
ـ وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.
ـ وكُتِب وحُضر سنة خمس عشرة ..
(وفي تاريخ الفتح خلاف، وإن كان الراجح هو أنه في سنة ست عشرة).
أيام عمر في بيت المقدس:
جاء دخول أمير المؤمنين القدس يوم الإثنين ملبيًا، وأقام بها حتى يوم الجمعة، فاستقبله زعماء المدينة وعلى رأسهم البَطريرك صفرنيوس الذي تولى شرح تاريخ المشاهد الدينية بالمدينة للخليفة عمر الذي طلب مشاهدة الأماكن المقدسة .. كان ذلك وسط مشاهد الاندهاش من سكان المدينة، وفي حضور قادة الجند المسلمين ووجوه الناس...
كان عمر حريصا في تلك الزيارة على مشاهدة معالم المدينة التي كان يحمل لها صورة أخذها عن الرسول الكريم الذي وصف المدينة للناس عقب معجزة الإسراء.. وتكرر وقوف الركب في عدة أماكن التبس على البطريق نفسه أنها المسجد الأقصى، خاصة أن موقع المسجد الأقصى والصخرة المقدسة قد تعرض للعبث والإهمال أثناء الاحتلال الروماني للقدس، وغدا بقعة تغطيها القمامة، انتقاما من اليهود الذين أهانوا كنيسة القيامة عند احتلال الفرس للقدس..
وحين اقترب الركب من هذا المكان بدأ الخليفة فحص معالمه، وتأكد أنه المكان المبارك .. عندها راح الخليفة العظيم في تواضع يجمع القمامة، ويذهب ليلقيها في وادي قدرون الواقع في شرق المكان، فاقتدى به المسلمون، حتى طَهُر المكان وتطهر واتضحت معالمه، كما ظهرت الصخرة المباركة.
وحين بدا محراب داود صلى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى سورة [ص] وسجد فيها والمسلمون معه، كما سجد داود من قبل، وفي الركعة الثانية قرأ سورة الإسراء..
وبنى عمر المسجد العمري الذي كان يؤمه المسلمون من أهل المدينة المقدسة، والقادمين إليها للزيارة عبر الزمان، حتى جدده الأمويون في عهد عبد الملك بن مروان..
وكان عمر قد رفض الصلاة في موضع بكنيسة القيامة، حين عرضها عليه البطريق صفرنيوس، صيانة لخصوصيات أصحاب الكنيسة، حتى لا يبني المسلمون مكانها مسجدًا، مدعين أنه مكان صلى فيه أمير المؤمنين ..
بيت المقدس من الفتح العمري إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين:
قبل أن ينصرف عمر بن الخطاب عن الشام، بعد أن تسلم مفاتيح بيت المقدس ـ راح ينظم البلاد إداريا، ويوزع السلطات بين أمراء المسلمين، فجعل الإمارة العامة في الشام في يد أبي عبيدة بن الجراح، ووقعت القدس ضمن إمارة يزيد بن أبي سفيان، الذي أمره الخليفة بالرجوع في أموره إلى قائده العام أبي عبيدة..
ولكن ما لبث طاعون عمواس أن اجتاح فلسطين وما جاورها عام السابع عشر من الهجرة، حيث مات عدد كبير من عامة المسلمين ووجهائهم وقادتهم، كأبي عبيدة ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان..
وبوفاة يزيد نقل عمر ما تحت يديه من السلطة إلى أخيه معاوية، وصارت القدس بذلك تحت سلطة أمير جديد من بني أمية..
وجاء أمير المؤمنين الثالث عثمان بن عفان من البيت الأموي أيضا، مؤكدا أن الإسلام يصطفي الرجال على اختلاف مشاربهم ومواهبهم، فأقرّ عثمانُ معاويةَ على الشام، اقتداء بعمر الذي أدرك موهبة الفتى الهمام مبكرا.
وإذا كان عثمان قد عُرف بالكرم والجود، حتى اشترى للمسلمين بالمدينة المنورة بئر رُومة من طيب ماله، وبثمن كبير ـ فإن القدس وأهلها أيضا قد نالتهم نفحة من جود عثمان، حيث وقف على ضعفاء أهل المدينة المقدسة عين ماء تسمى "عين سلوان"، وهي عين غزيرة تسقي الكثير من الجنان، وقيل إن عثمان وقف الحدائق التي تسقيها هذه العين على نفع المسلمين أيضا.
وبعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ بقيت السلطة على بيت المقدس، وعلى الشام كله، في يد معاوية بن أبي سفيان. وحتى حين تولّى علي بن أبي طالب إمارة المؤمنين، ودخل في نزاع شديد مع والي الشام معاوية، فإن أمير المؤمنين لم يستطع السيطرة على بيت المقدس، وظلت في يد معاوية إلى أن قامت الدولة الأموية، وبويع معاوية بالخلافة في القدس عام أربعين من الهجرة.
بنو أمية والقدس:
تنافس هاشم بن عبد مناف وأخوه عبد شمس جد بني أمية في الجاهلية على الشرف والسيادة، فتفوق هاشم، وحاز قَصْبَ السَّبْق، وأصبح أحق بالرياسة على قريش.. وفي نفس الوقت تفرغ أخوه للتجارة حتى برع فيها، وتجول بتجارته في كثير من البلاد، وورث أبناؤه عنه ذلك..
وفي رحلة له إلى بلاد الشام توفي هاشم، ودُفن في غزة على مقربة من بيت المقدس، وأدرك الأجل أخاه عبد شمس أيضا، وهو صاحب معرفة جيدة بمدن الشام وقراه، فظلت المنافسة بعدهما، على كل أنواع الرياسة والسيادة، شديدة بين البيتين الهاشمي والأموي..
فلما بعث الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بني هاشم، آمن به أناس من الفريقين، وكفر به أناس من الطرفين كذلك.. فلما انتصر الإسلام جمع الفريقين تحت ردائه، وعد العصبية للآباء والأعراق بقية من ميراث الجاهلية البغيض..
واستعمل المسلمون مواهبهم في العمل لدينهم، لا فرق في ذلك بين هاشمي وأُموي، حتى خضعت لهم أعظم بلاد الدنيا المعمورة حينئذ، ومنها مدينة بيت المقدس، التي استُشهد في الطريق إلى فتحها الكثير من عظماء الرجال من الهاشميين والأمويين وغيرهم..
ولم يمر وقت طويل حتى وقع الخلاف بين المسلمين بعد استشهاد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقد كان قتل الأمير هو الفتنة التي تفرّق المسلمون لأجلها، إذ أصر فريق يقوده معاوية بن أبي سفيان على سرعة الثأر من المجرمين، في حين رأى علي بن أبي طالب أن ذلك ليس مأمون العواقب إلا حين تستقر أمور الدولة في يديه..
ولم ينته هذا الخلاف إلا حين قُتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيدا بيد أحد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين، فآلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، لتبدأ فترة جديدة يعْرفها المؤرخون بـ "الدولة الأموية"..
واتخذ الأمويون كرسي ملكهم في بلاد الشام، حيث يجتمع أنصارهم، وبالتالي كانت القدس قريبة من عيونهم، فترك العديد من خلفاء بني أمية في المدينة المقدسة علامات خالدة وأعمالا كبيرة، لا زال العديد منها باقيا ـ بصورة من الصور ـ يشهد لهم، كما فعل عبد الملك بن مروان وابنه الوليد ، ومثلما صنع سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز..
وقد بويع في القدس بإمارة المؤمنين للعديد من خلفاء بني أمية، مثل معاوية بن أبي سفيان والوليد وسليمان ابني عبد الملك.
وحفظ التاريخ لنا وصفا جميلا للمدينة المقدسة أثناء الحكم الأموي.
وصف القدس في زمن بني أمية:
معاوية بن أبي سفيان من الشخصيات الكبيرة التي شهدت انتقال القدس إلى السيادة الإسلامية، فكان من أفراد الركب المسلم الذي التف حول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يتسلم مفاتيح بيت المقدس من بطريرك المدينة صفرنيوس..
ولم يكن معاوية حاضرا عاديا لهذا المشهد الكبير، بل كان أحد الشهود على وثيقة العهد الذي كتبه عمر لأهل بيت المقدس..
وحين صارت الخلافة إلى معاوية سنة إحدى وأربعين للهجرة، كانت القدس تعرفه ويعرفها، إذ مكث زمنا طويلا أميرا عليها وعلى الشام كله.
وقد وصف المؤرخون القدس تحت ظلال الأمويين فقالوا: "كان للقدس يومئذ سور، وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجًا، وله ستة أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني شرقيها، والثالث في الشمال. وكان يؤم المدينة، في اليوم الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من كل سنة، جماهير غفيرة من مختلف الأجناس والأديان بقصد التجارة، ويقضي هؤلاء فيها بضعة أيام. وكان فيها مسجد مربع الأضلاع، بُني من حجارة وأعمدة ضخمة نقلت من الأطلال المجاورة. وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين. والمعتقد أن هذا هو المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب. وكان جبل الزيتون مغطى بأشجار العنب والزيتون. وكان سكان بيت المقدس يومئذ يأتون بالأخشاب التي يحتاجون إليها من أجل البناء والوقود، تنقل على الجمال من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى الشمال".
القدس في عهد عبد الملك والوليد:
يُعد عبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي للدولة الأموية، فقد أنقذها من الانهيار، وانتصر على منافسه القوي عبد الله بن الزبير، حتى خضعت له الحجاز والعراق، وانفرد بالحكم في العالم الإسلامي.
وقد جاء من بعده ابنه الوليد، فبلغت الدولة في عهده شأنا كبيرا، وكثرت الفتوحات حتى وصل المسلمون إلى أوروبا من جنوبها الغربي، وفتحوا الأندلس، كما توغلوا في آسيا إلى الشرق والجنوب، وفتحوا السند والهند..
ولعبد الملك والوليد في القدس أعمال خالدة، ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال عبد الملك والوليد وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين، كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة.
وأما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له الخدم والرعاة الذين يصونونه.
سليمان بن عبد الملك وبيت المقدس:
سليمان هو ثاني أبناء عبد الملك بن مروان الأربعة (الوليد وسليمان ويزيد وهشام) الذين تولوا الخلافة بعد أبيهم، وكان آخرُ مناصبه قبل مبايعته بالخلافة العامة (سنة ست وتسعين) هي الولاية على فلسطين..
وقد أعطى هذا المنصب لسليمان معرفة جيدة بفلسطين ومدنها، وعلى رأسها القدس والرملة، وكان محببا إليه الجلوس تحت قبة السلسلة بأرض الحرم القدسي الشريف.
وترجم سليمان حبه للقدس عقب توليه الخلافة بصورة أبهى من ذلك، فبويع على سطح الصخرة تحت القبة التي بناها أبوه، في مشهد مبهر، اجتمع فيه الناس حول الخليفة الجديد وإلى جانبه المال وكتّاب الدواوين.
وكاد سليمان أن يتخذ قرارا، هو الأول من نوعه في تاريخ المسلمين، بنقل العاصمة إلى بيت المقدس أو الرملة، وسيطرت على تفكيره حينئذ صورة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وهو يحكم مملكته القوية من بيت المقدس.. ولكن هذا الأمر لم يتحقق، ربما للموت السريع الذي أدرك سليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين وهو في مرج دابق شمالي الشام.
العباسيون والقدس:
مع العباسيين بدأت العاصمة تنتقل شرقًا إلى العراق، حتى بنى المنصور بغداد هناك، فاختطفت الأضواء من كل مدن الدنيا، وبهذا تراجعت مكانةُ الشام ومدنِه عما كانت عليه في عصر الأمويين، وبرزت أسماء الكوفة وبغداد والبصرة ، بدلاً من دمشق وبيت المقدس والرملة.
وعلى الرغم من ذلك فقد اهتم العباسيون منذ بداية دولتهم (سنة مائة واثنتين وثلاثين للهجرة) بإدخال الشام وفلسطين تحت سلطانهم، لما لهذه المنطقة من أهمية بالغة، فدخلها صالح بن عليّ عمُّ الخليفة المنصور في نفس السنة، في خمسين ألف مقاتل، وضمها إلى التاج العباسي المنتصر.
وكان من نصيب الشام في بداية الدولة العباسية أن تقع تحت إمارة رجل من البيت الحاكم، تميز بالغلظة والشدة، وهو عبد الله بن عليّ الذي تَتَبَّع الأمويين في كل مكان من فلسطين والشام، وقتل الكثيرين منهم، وتسبب في ثورتهم ضد الخلافة الجديدة في دمشق وقِنَّسْرين؛ حيث وُوجِهُوا بشدة بالغة.
وعقب تولي المنصور للخلافة سنة مائة وست وثلاثين، ثار عمُّه عبدُ الله بنُ عليّ ضده في الشام، وسار عبد الله على نهجه السابق في الغلظة والشدة، واستقل بالشام عن الدولة، مدعيًا أنه أحق بالخلافة من المنصور ابن أخيه، وحين لم يستجب لنداءات المنصور السلمية، بعثت إليه الخلافة جيشًا كبيرًا انتزع منه الشام، فصارت بيت المقدس تحت تاج الخلافة العباسية المستقرة.
ومنذ استقرت الأمور للبيت العباسي تعود الخلفاء تفقد مدن الشام، وزيارة بيت المقدس، كما فعل المنصور حين خضعت له الشام. وانصب اهتمامهم في الغالب على المسجد الأقصى، فرَعَوْه واهتموا به، وتابعوا ترميمه وبناءه، كما فعل المنصور والمهديُّ والمأمون.
ومن القضايا العباسية الأخرى ذات الصلة ببيت المقدس، علاقة الخلافة بالمسيحيين من أهل القدس، وتأثر وضع المدينة بالتقلبات السياسية في عموم الدولة حينما ضعفت حتى خضعت القدس للطولونيين، ومن بعدهم للإخشيديين، ثم الفاطميين.
علاقة العباسيين بأهل الذمة في القدس:
في الصراع الأموي العباسي وقف أهل الذمة في بيت المقدس على الحياد، فهو صراع "لا ناقة لهم فيه ولا جمل"، فبقيت أمورُهم مستقرة، يزاولون حياتهم وعقيدتهم بحرية، على الصورة التي تعهد لهم بها المسلمون منذ الفتح العُمَرِيِّ للقدس.
فلما تولى المهدي الخلافة سنة مائة وثمان وخمسين للهجرة، اعتنى بمواجهة البِدعة والانحراف العقائدي في صفوف المسلمين، ونفى إلياس الثالث بطريرك بيت المقدس إلى بلاد فارس؛ لعصبية دينية ظاهرة من البطريرك نحو دينه، كما أسكن "المهدي" المسيحيين من أهل القدس في حي واحد بالمدينة.
وفي عهد الرشيد بلغت الدولة ذروةَ مجدِها، وصب هذا في اتجاه تحسين معاملة الدولة لأهل الذمة بصورة كبيرة في بيت المقدس وعموم الدولة.
وأكثر من ذلك سمح الرشيد للإمبراطور شارلمان بترميم كنائس المدينة، وتعهد الخليفة بحماية الحجيج من النصارى الذين يَفِدُونَ إلى بيت المقدس لزيارة أماكنِهم المقدسة.
وتبادلت وفودُ الرشيد ـ الذي كان يحكم أكبر ممالك الدنيا في هذا الزمان ـ ووفودُ شارلمان ـ الذي كان يحكم جزءًا كبيرًا من غرب أوروبا وجنوبها ـ تبادلت هذه الوفود الزيارات في رحلات طويلة ومتتابعة، وفي إحدى هذه الزيارات إلى بغداد منح أميرُ المؤمنينَ هارون الرشيدُ الوفدَ المسيحيَّ مفاتيحَ كنيسة القيامة ـ أكبر أثر نصراني في القدس ـ ليسلموها إلى سيدهم شارلمان.