محاولة الإفلات من قيود الوزن العروضي والقافية باسم الشعر الحر
إن الذي دعاهم إلى الإفلات من قيود الوزن زاعمين ضيق الأوزان في الشعر العربي قد دعاهم مثلُه إلى الإفلات من قيود القافية؛ ذلك بأن الشعر العربي إذا زاد المقول فيه على بيت واحد وجب أن يتحد مع الأصل في الوزن والقافية، ولم يعهد عن العرب القدماء أنهم قالوا بيتين أو أكثر في معرض واحد إلا جاؤوا بذلك من بحر واحد، وجعلوا أواخر الأبيات حرفا واحدا مع ما اشترطوا في هذه الأواخر من شروط مجموعها هو علم القافية.
حقا إن هذا إذا نظرنا إليه نظرة عامة نراه التزاما شديدا لم تشترطه لغة غير العربية، فأكثر اللغات يكفي فيها شرط الوزن مع خلاف بين اللغات واللغة العربية فيما يراد بهذا الشرط أيضا.
ولو نظرنا إلى اللغة العربية في سابق عهدها وجدناها قد نهضت بجميع أغراض القول مع اشتراط الوزن والقافية، وكان أكثر كلام العرب شعرا، ولم يُعرف أن أحدا منهم شكا من ذلك، أو تبرم به، أو حاول الخروج عليه لا في جاهلية ولا إسلام حتى كان العصر العباسي.
فإذا كان بعض الشعراء في العصر العباسي قد تبرم بهذين القيدين فليس العيب عيب اللغة، ولكنه عيب من يحاول ما لا يستطيع، وهو عيب من لا يستكمل الوسائل ثم يريد الطفور (القفز) إلى الغايات، وما كان لنا أن نتابع هؤلاء الباغين على العربية الذين يريدون أن يتحيَّفوا (يتنقَّصوا) جمالها من أطرافه، فننادي معهم بطرح هذه القيود؛ فإنها ليست كما ظنوا قيود منع وإرهاق، ولكنها حجز زينة، ومعاقد رشاقة، ونظام فريد لا يحسن إلا إذا روعي فيه التناسق والتناظر.
ومن أمثلة هذه المحاولة المزرية بقدر الشعر ما أنشده القاضي أبو بكر الباقلاني في كتابه الإعجاز من قول بعضهم:
رُبَّ أخٍ كنتُ به مغتبطًا ** أشدُّ كفيْ بعُرى صحبتهْ
تمسكا مني بالود ولا ** أحسبه يزهد في ذي أملِ
ولكن هذا الناعق لم يجد من يتابعه؛ لأن الأذن لم ترتح إلى صنيعه، لكنهم قبلوا من ذلك أنواعا أخرى منها:
أولا: الشعر المزدوج:
الشعر المزدوج أو المثنيات هو الذي يعتمد فيه الشاعر على تصريع أبيات القصيدة جميعا، فقافية الشطر الأول هي نفس قافية الشطر الثاني، وأميز ما يكون ذلك في الأراجيز.
وقد بدأ الشعراء العباسيون بهذا النوع من الشعر؛ إذ وجدوه سهلا يسيرا لا يكلفهم مشقة الحفاظ على وحدة القافية في القصيدة الواحدة. ويُرَى أن أول من نظم فيه بشار بن برد وأبو العتاهية، ثم تتابع عليه الشعراء، إذ وجدوه أسهل في نظم القصص الطويلة، والحكم، والأمثال، ومسائل العلوم. ولأبي العتاهية مزدوجة مشهورة عدتها أربعة آلاف بيت، سماها (ذات الحكم والأمثال)؛ لكثرة الحكم والأمثال فيها، منها:
إن الشباب والفراغ والجده ** مفسدة للمرء أي مفسده
حسبك مما تبتغيه القوت ** ما أكثر القوت لمن يموت
الفقر فيما جاوز الكفافا ** من اتقى الله رجا وخافا
لكل ما يؤذي ، وإن قل ، ألم ** ما أطول الليل على من لم ينم
ما انتفع المرء بمثل عقله ** وخير ذخر المرء حسن فعله
ثانيا: المسمط - المسمطات:
المسمط أو المسمطات نوع من الشعر يبتدئ فيه الشاعر ببيت مصرع غالبا، تسمى قافيته عمود القصيدة، ثم يأتي بمجاميع من الأشطر في كل منها خمسة أشطر: الأربعة الأولى منها على غير قافية البيت الأول (عمود القصيدة) والشطر الخامس على هذه القافية، ومثاله المسمط المنسوب إلى امرئ القيس، وقيل: إنه منحول:
توهمت من هند معالم أطلال ** عفاهن طول الدهر في الزمن الخالي
مرابع من هند خلت ومصايف ** يصيح بمغناها صدى وعوازف
وغيرها هوج الرياح العواصف ** وكل مسف ثم آخر رادف
بأسحم من نوء السماكين هطال
وهذا أشيع أنواع المسمطات، وإلا فإن له أنواعا عدة، منها ما يعرف بـ (تسميط التقطيع)، وتكون فيه أجزاء البيت الشعري كلها مسجعة بروي من غير روي القافية نحو قول ابن هانئ الأندلسي (من الكامل):
ملأوا البلاد رغائبا وكتائبا ** وقواضبا وشواربا إن ساروا
وجداولا وأجادلا ومقاولا ** وعواملا وذوابلا واختاروا
ومنهم من يسمي هذا النوع من المسمطات (الموازنة)، ويخرجه من صنف المسمطات.
ثالثا: المخمس - المخمسات:
هو الشعر الذي يقسم فيه الشاعر قصيدته إلى خمسة أقسام في كل منها خمسة أشطر مع مراعاة نظام ما للقافية في هذه الأشطر.
والشعر المخمس نوعان:
النوع الأول: نوع يكون فيه كل خمسة أشطر ذات قافية واحدة، ومستقلة تمام الاستقلال في قوافيها وأوزانها عن الأشطر الخمسة التي تليها، ومثاله قول إلياس فرحات تحت عنوان (بين الطفولة والشباب):
ظلمتني ظلمتني يا دهر ** ماذا تشا؟ هل لك عندي ثأر
كأن دمعي فوق خدي نثر ** كأن صدري من سقامي شعر
وكل ضلع من ضلوعي شطر
قد صرت من حزني وامتعاضي ** كالهيكل الهادي إلى الأرباض
إن أذكر العهد اللذيذ الماضي ** يختلط السواد بالبياض
وتمطـر العين على الأنقـاض
وهذا الشعر لم ينتشر بين شعرائنا المحدثين.
النوع الثاني: نوع تتحد فيه القافية في الأشطر الخمسة الأولى، أما في باقي مخمسات القصيدة، فيكون للأشطر الأربعة الأولى من كل مخمس منها قافية خاصة، وتتحد قافية الشطر الخامس مع أشطر المخمس الأول، ومثاله قول الرصافي:
إلى كم أنت تهتف بالنشيدِ ** وقد أعياك إيقاظ الرقودِ
فلست، وإن شددت عرى القصيدِ ** بمجد في نشيدك أو مفيدِ
لأن القوم في غيٍّ بعيدِ
إذا أيقظتهم زادوا رقادا ** وإن أنهضتهم ، قعدوا وئادا
فسبحان الذي خلق العبادا ** كأن القومَ قد خلقوا جمادا
وهل يخلو الجماد عن الجمودِ؟
وهذا النوع من المخمسات هو الذي استحسنه الشعراء المحدثون، فأكثروا منه، ونظموا فيه أغراضا لم يطرقها القدماء، ففيه نظم حافظ إبراهيم قصيدة في رثاء الملكة فكتوريا، ونظم معروف الرصافي قصيدته (الفقر والسقام)، وقصيدته (إيقاظ الرقود).
ويمكن اعتبار هذا النوع من المخمسات مع المربعات نواة للموشحات التي ظهرت فيما بعد، وذلك نظرا لما فيه من عنصر يتكرر في كل قسم من أقسامه.
أسئلة على ما سبقت دراسته
س1: ما حكم الأشعار التي خرجت عن الأوزان الخليلية؟، ولمن ينسب ما خرج عن هذه الأوزان؟
س2: ما رأي المولدين في حصر الأوزان في ستة عشر وزنا؟، وماذا يريدون؟
س3: لم جنح المولدون إلى أوزان أخرى غير أوزان الخليل بن أحمد الفراهيدي؟
س4: ما الأشياء التي استحدثوها؟ اذكر أمثلة لذلك.
س5: ما الذي دعا المولدين إلى الإفلات من قيود القافية؟
س6: إن اشتراط الوزن والقافية التزام شديد لم تشترطه لغة غير اللغة العربية، فهل عجزت عن أن تنهض بغرض من أغراض القول؟ وضح هذا.
س7: ما الشعر المزدوج؟، ولم طرقه الشعراء؟، ومن أول من نظم فيه؟
س8: ما المسمطات؟، اذكر نوعا آخر لها.
س9: ما الشعر المخمس؟ وما أنواعه؟